الأطاولة .. تستنطق التاريخ

كتب : بخيت طالع الزهراني
عندما انتهى حفل افتتاح مهرجان لجنة التنمية التراثي الرابع بالأطاولة, مساء الأربعاء الخامس من ذي القعدة 1439 هـ كنت أقف عند حافة الصف الأول للجالسين .
وبعد مرور كبار المسؤولين مغادرين لمكان الحفل , لحقت بأمين منطقة الباحة د . علي السواط , شاكراً إياه على دعمة للجنة في حفلها الباذخ , الذي كان بإجماع الحضور لوحة “كرنفالية” غاية في الامتاع , ثقافيا, وفنيا, وتراثياً, وشعبيا .. أضاء صداه ليل الأطاولة في تلك الأمسية الصيفية من يوليو , ذات الطقس الحار جدا في مجمل مدن السعودية , فيما كانت الأطاولة – أيقونة الباحة – تتقلب في درجة حرارة لم تتجاوز الـ 20 درجة مئوية.
ثم كان أن استكملت حديثي مع الدكتور السواط في ديوانية لجنة التنمية , خلال مأدبة العشاء التي أقيمت احتفاء به , على وعد منه أن نلتقي في جلسة حديث صحفي موسع في مكتبة لاحقاً .
.
وقبل أن اتحدث عن مهرجان الأطاولة , وعن سوق الربوع التاريخي , الذي اختارته اللجنة هذا العام مكانا لنسخة حفلها السنوي الرابع , كنت وأنا في المقر الدائم لديوانية اللجنة , في الطابق الثاني من حصن مشيخة قبيلة قريش , أتأمل ذلك المجلس الكبير , الذي كان ديوانا لشيوخ القبيلة عبر 270 عاما , كانوا خلالها يستقبلون فيه الوجهاء والعامة وتعقد فيه الاجتماعات , وتصدر منه القرارات المصيرية للقبيلة , وأخر من سكنه الشيخ الحسين بن جابر (جدّ شيخ القبيلة الحالي) .
ثم كيف فطن أبناء الأطاولة النبهاء, إلى فكرة إعادة الروح والحياة معا , لذلك المكان العريق .. من خلال تحويلة إلى مزار تاريخي دائم , مفتوح للسواح والباحثين وعشاق العودة للتاريخ .
وأعود للحفل الذي بدأ من بعد صلاة العشاء وحتى ما قبل منتصف الليل .. والذي احتوى على فقرات متنوعة , كان من أبرزها الأوبريت الشعبي , الذي صدح به المنشد صاحب الصوت الأخاذ ناصر القرشي , ومن كلمات الشاعر الشعبي الجميل صالح العطيف , وكلاهما من أبناء الأطاولة المبدعين .. بصحبة فرقة الثقافة والفنون بمحافظة القرى , بإشراف الشاعر وصاحب الحس الثقافي والفني الشاعر محمد بن سعيد الأطولي .
وجاء الأوبريت في كلماته وألحانه , من واقع ثقافة وتراث المنطقة , ما جعل الضيوف والحضور يتفاعلون معه بحماس ومشاركة في الأداء .. حتى لكأني بوادي قريش والجبال المحيطة بالمكان قد راحت تنشي تفاعلا وطربا مع الأوبريت , في تلك الليلة الاستثنائية التي قل أن شهدت الأطاولة مثيلا لها من قبل .
والواقع أن الأطاولة قد “سرقت الكاميرا” من كل مدن وبلدات منطقة الباحة هذا العام , واستطاعت أن تلفت الأعناق , ليس لحفل الافتتاح الذي كان قمة , وكان باذخا في كل شيء .. ولكن لمجمل الفعاليات المتنوعة , التي تستمر لأسبوع كامل , لا يتسع المجال لذكر تفاصيلها من كثرتها .
والواقع أن الأطاولة قد صنعت “الفرق” في صيف منطقة الباحة لهذه السنة .. طبقا لما شهد به إعلاميون ومثقفون ومسؤولون … فقدمت “منتجاً” سياحيا حقيقيا يفخر به الجميع , ليس فقط ترفيهياَ – على أهمية الترفيه , ولكن المنتج الذي تم تقديمه , كان أيضا … تاريخيا , تراثيا, اجتماعيا, نسويا, تطوعيا .
وكان من الجماليات وما أكثرها في مهرجان الأطاولة التراثي , أن تم إعادة فتح دكاكين سوق الربوع , التي ظلت موصدة الأبواب .. حتى ظن الكثيرون أنها قد غابت إلى لأبد في دهاليز التاريخ .. وإذا بها فجأة تشرع أبوابها من جديد , ويدخل الناس إلى عمقها , متفرجين , مشدوهين , مشترين , بائعين , وغير مصدقين أنفسهم … بعد غياب حوالي 50 عاما عن الحياة .
وإذ بسوق الربوع التاريخي في الأطاولة , وصاحب العمر 700 سنة .. يفتح ذراعيها لحشود البشر مجدداً – من كل مكان – ثم يبتسم للجميع , ويصافحهم واحداً واحدا .. ويعلن رضاه عن أحفاد رجالات الأطاولة القدامي , شاكرا إياهم على “وفائهم” له , وعدم جحودهم لسبعة قرون مضت , كان خلالها ليس سوقا للبيع والشراء وحسب , بل كان منارة اجتماعية ثقافية , يتم فيه الصلح بين المتخاصمين , ويتبادل فيه المتبضعون (العلوم) وأخبار الديرة والسيرة , إلى أخر ما هنالك من معطيات ثرة كان يقدمها للناس , منذ كان اسمه سوق الخميس بالاطاولة , حتى تحول مسماه الى سوق ربوع قريش .
حفل لجنة التنمية التراثي الرابع .. اقتنص عدة عصافير بحجر واحد … فقد جاء لوحة ابداعية شنفت أذان السواح والأهالي , وملئت جوانحهم بعبق الماضي الجميل .. كما كان لوحة بصرية باهرة , حركت القلوب , وأمتعت الأفئدة … وأبالغ إذا قلت … وأيضا أدمعت العيون من شدة الفرح .