آراء و تدوينات

أنا الكاتب أم أنا البطل؟

أ.د منى الغامدي (*)

“وقوفنا أمام المرآة هو إزالة الصخرة عن فتحة كهف الذات”.

بهذا الاقتباس الذي ينسبه لنفسه؛ بدأ الكاتب والشاعر صلاح بن هندي قصته الموسومة بـ “المواجهة” في مجموعته القصصية “الصدف ودخان الأحلام”، الصادرة عن نادي الأحساء الأدبي 2014.

وهي قصة تدور حول حقيقة الوجود، والجسد والزمن، وتمر على نظرية دارون في النشوء والارتقاء، وتنتهي بتصدع المرآة، ومن ثم تشظي وجوه البطل وتعددها، وهروبه من مواجهتها. لم تكن تلك المواجهة عنصرًا حاسمًا في فض النزاع بين البطل وذاته، بل على العكس من ذلك، فقد كانت معضلة فتحت أمام البطل أبوابًا كثيرة لم تغلق، وظل لغز الذات والوجود مبهما.

ليست هذه القضية التي نود مناقشتها هنا، بل تلك الطرق التي يمارسها بعض الكتَّاب ليبرز ذاته من خلال الحكي عن الآخرين، فيموِّه على القارئ الذي يظن بأنه يقرأ قصة متخيلة، بينما هو في الحقيقة يقرأ قصة عن الكاتب نفسه؛ إذ يتضح من الأفكار السابقة التي طرحتها القصة محاولة الكاتب إبراز ثقافته الواسعة واطلاعه، وبالتالي طغيان الأنا الكاتبة على الشخصية المحورية، فلا نشعر بوجود البطل إلا من خلال وجهة نظر الكاتب.

تبدأ الأنا المتعالية عند الكاتب بن هندي من خلال الاقتباس الذي يوقعه باسمه، فقد جرت العادة عند أكثر كتاب القصص والروايات أن يبدأ، إما بعد عناوين فصول الرواية مباشرة أو قبلها، بالاقتباس عن الآخرين استعراضا لثقافته، وللتمهيد بأحداث القصة التي تشي بها هذه الاقتباسات، لكن الكاتب هنا يتجاوز تلك القاعدة على غير المألوف، فيورد أفكاره الخاصة بين علامتي تنصيص، ويوقعها باسمه، ويفرد لها صفحة خاصة بها قبل كل فصل، وكأنها بنية خطابية مستقلة.

ولعل من أبرز التقنيات التي يمارس من خلالها الكتَّاب تمجيد الأنا؛ التركيز على عرض المعلومات التي تجسد معارفهم وثقافتهم، فنجد ابن هندي يصنع من تساؤلات البطل وحيرته أمام صورته في المرآة جسرًا ثقافيًا بينه وبين القارئ، حيث يناقش قضية كيفية تحقق هوية الذات، فيطرح من خلال تقنية الاستبطان؛ استبطان البطل لأفكاره، بعض التساؤلات التي تكشف عن فلسفته الخاصة.

فهل تتحقق ذات البطل وهويته من خلال اسمه الذي يتشاركه مع آلاف الناس، أم من خلال لقب عائلته الذي يشاركه فيه العشرات من أبناء عمومته، أم من خلال جسده الذي لا يستقر على حال، فيقول على لسان البطل: (لكن أحقا أن الإنسان يتحرر من نفسه بنفسه، “وأنه لا يتطابق مع ذاته أبدا، بل هو في صيرورة مستمرة، وحركة دائبة، ومفارقة دائمة”)،(ص16).

فلا يكتفي الكاتب بسرد أحداث القصة، بل إن القصة تكاد تخلو من الحدث، إذ أن الحدث الوحيد فيها هو استيقاظ البطل من نومه وإبداء رغبته في الذهاب إلى عرس صديقه، ويركز بدلًا من ذلك على ثيمة التأمل وحدها، التي تكشف عن العمق الفكري له بطريقة ماكرة، فلا يلبث القارئ إلا أن يشارك الكاتب في آرائه الفلسفية تلك؛ إما بالرفض أو التأييد.

كما أن اختيار اسم “مختار معروف” للبطل، واسم صديقه “عارف”، له دلالة موظفة بعناية مع دلالة النص الرئيسة، فقضية الاختيار الوجودي والمعرفة هي هاجس البطل، وهي هاجس الكاتب الفعلي، الذي دائما ما يسعى إلى فلسفة أحداث قصصه، وتغذيتها بعناصر تجسد وعيه الثقافي، ومحاولاته في تصوير مدى اختلافه عن الكتاب الآخرين.

حتى في وصف المكان نجده يستخدم زاوية نظر تعكس صورة المكان وليس هويته الحقيقة، فيجعل البطل يتأمل المكان من خلال المرآة: (نظر إلى الغرفة من خلال المرآة، فرآها في وضع مزر. السرير غير مرتب، وبجانبه الأباجورة فستقية اللون، وقد تكدس الغبار عليها كما تكدس الذباب على وجه “إلكترا)، فحتى المكان لا تبدو هويته إلا من خلال انعكاس ما، كهوية الذات البشرية التي لا تظهر إلا من خلال هوية أخرى كالجسد والأسماء، وهو الأمر الذي يكثف من دلالة الاقتباس الذي يتصدر هذه القصة.

ومن التقنيات الأخرى التي يلجأ إليها الكتَّاب في تجسيد الأنا المتعالية، إقحام بعض أسماء الكتب المشهورة، أو بعض أسماء الشخصيات الرمزية أو التاريخية، مثل اسم “إلكترا” الذي يظهر فجأة في النص السابق دون أي مبرر لاستعادة البطل له إلا مبررًا واحدًا لا يسعنا إلا أن نؤكد على مصداقيته، وهو حرص الكاتب على عرض ثقافته الخاصة، والكشف عن قراءته لنظريات فرويد في التحليل النفسي. ويضاف إلى ذلك؛ عرضه للعديد من أسماء الكتب التي تكشف عن ثقافته الواسعة، مثل: ” كتاب “أصل الأنواع”، بجانبه “هكذا تكلم زراد شت”، فوقه “الغثيان”، و”الوجود والعدم”، وهناك على حافة الطاولة كتاب على غلافه عبارة “اللامنتمي”. 

وختاما يطرح الكاتب فلسفته الخاصة حول قيمة المعرفة، وما ينتج عنها من شقاء أو سعادة، وبالرغم من أن وجهة النظر هذه تمر عبر المونولوج الداخلي للبطل، في قوله وهو يتأمل كتبه السابقة من خلال انعكاسها في المرآة: “زعموا أن المعرفة طريق السعادة، وما عرفت الشقاء إلا بعدما سرت في هذا الطريق” (ص17).

 إلا أننا ندرك من خلالها مدى العمق الفكري والثقافي للكاتب نفسه، الذي نتشارك معه والبطل وجهة نظره هذه، ونقرُّ بكل صدق أن (ذو العقل يشقى في النعيم بعقله، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم).   

…..

(*) أستاذ الأدب والنقد الحديث – جامعة جدة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من صحيفة الاتجاه

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading