قراءة في “مائل بخط الرقعة” لكاظم الخليفة
وفاء عمر بن صديق (*)
تكونت المجموعة القصصية (مائل بخط الرقعة) من خمس وعشرين قصة، تراوحت ما بين القصيرة والقصيرة جدا، استمدت موضوعاتها من المكان بإرثه الثقافي والتاريخي والأسطوري، تخللها طرح للقضايا الإنسانية الفلسفية، التي عبر عنها الكاتب بطريقته الخاصة وأسلوبه المتفرد، وبالرغم من كون كل قصة هي كيان جدير بالقراءة المستقلة، لما تحويه من معان عميقة بين السطور، إلا أنني سأكتفي بالإشارة إلى بعض منها:
ففي قصة (الانفجار):
التي دارت حول موظف طُلب منه كتابة تقرير عن سبب انفجار في أحد المصانع، وعبر هذه المهمة وبأسلوب سرد متقن كشف لنا نظرة المجتمع الصناعي للإنسان وتحويله إلى مجرد رقم ومعاملته كآلة (ص١٠): “أنسنوا المراكب، منحوها أسماء أحبائهم …ونحن هنا “مكننا” الإنسان فهو مجرد رقم كالمعدة تمامًا رقم ١٢٣٤ “
مما يستدعي إلى أذهاننا رواية (التحول) للأديب كافكا التي تحدث فيها عن معاناة الإنسان في مجتمع قائم على المنفعة المتولدة من إنتاج الإنسان وكأنه مصنوع من الحديد، وقد أضاف الكاتب كاظم معنىً إبداعيًّا بالمقارنة في التعامل بين الإنسان والآلة، وكأن المعايير قُلبت في هذا المجتمع المضطرب.
وقد تناولت قصة (وهب) قضية المهمشين والتي يرويها عنه صديقه بضمير الغائب أو الراوي العليم للدلالة على مدى عجز (وهب) عن التحدث عن نفسه، فقد أبدع الكاتب في تصوير الشخصية التي تعد رمزًا لفئة أجحف المجتمع حقها، ومن خلال التنقل بين زمان الحاضر والماضي بأسلوب التداعي تم إيصال الحالة التي يعاني منها (وهب) وفاجأنا صديقه في نهاية القصة بأنه يتمنى لو كان مكانه في امتلاكه موهبته، وهي التفاعل مع الحياة بنصف وعي وقليل من الإدراك (ص٣٧).
ومن الملفت تركيز الكاتب على الطفولة، وقد برز ذلك في عدة قصص منها:
قصة (عندما أنتسب إلى عطارد) حيث أرادت الشخصية الاحتفاء بعيد ميلاد الابنة، ومن هذا الحدث تطرق إلى فلسفة الوجود وعلاقة الإنسان بالكون وكأنه تجسيد للمقولة المعروفة (وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر) التي توصل إليها البطل من لقاء مع أحد أصدقاء العائلة مما غير مفهومه للميلاد (ص٦١):
“يومها شعرت أنني لا أسبح في فراغ العبثية بل جزء من كل ذلك العالم الرائع الواسع ..”
وقصة (مائل بخط الرقعة) التي عنون بها الكاتب مجموعته القصصية، ونقلنا فيها إلى مرحلة الطفولة ورمزيتها وبدايات الكتابة بالتعرف على الحروف مستخدمًا مفردات خاصة بعالم البراءة مثل: (الأرجوحة/ الحكاية / أبلة …)
(ص٦٨):” تغني الحروف بشكل متسلسل ك..ت..ب…”
كما أشار الكاتب إلى أزمة المثقف مع الموروث في قصة (كائن ثقافي) باستخدام الاختزال والجمل الفعلية المتلاحقة ذات الإيقاع القوي على النفس (ص ٧٦):” يتصفح كتب التراث؛ حياته المرسومة كم ابتعد عنها”.
كذلك في قصة (مصدات وعي) ظهر صراع الإنسان مع المنطق وخوفه مما يصطدم بقناعاته ومعتقداته الموروثة (ص٧٨): ” يفتح مظلة المطر علها تقيه من تسربها إلى عقله .. لسلامة يقينه الموروث”
ولقد أدهشنا الكاتب في إعادة خلقه للأسطورة كما في قصة (عودة قريمط) التي تناول فيها جزءًا من تاريخ الأحساء الممزوج بالأسطورة في شخصية الفلاح (قريمط) الذي أصبح سمسارًا، ومدى انعكاسها على بطل القصة، وتداخلها مع أحلامه حتى سيطرت على اللاوعي لديه (ص٤٢):
“ما بقي عالقًا في ذاكرتي … كان قريمط على فراش المرض الذي مات فيه وعهد إلي بوصيته الخالدة”
إن الكاتب المبدع أ. كاظم الخليفة استطاع عبر هذا التنوع في المحاور من إبداع توليفة مميزة من خلال إعادة خلق لكل ما قد يكتنف الإنسان من أفكار، وما يحمله من إرث ثقافي وتاريخي يشكل هويته وبصمته الخاصة التي تميزه في هذا العالم.
….
(*) قاصة وكاتبة