صبابة

أمل علي أحمد
المساء لم يكن ذو رائحة، الخبز كان يابساً، القهوة باردة، تمتمات الأهل خافتة، المرايات معتمة، والعشاق واجمون في مقصورات خيالاتهم … بلا لقاء ولا فراق
خيوط الأحلام التي تتشكل على عرش الحياة
ليست أكثر من خيوط دخان آخذة بالتلاشي كلما أرتفع سقفها
أو بيوت قصيدة مقيدة بسيف الحياء، فلا هي نطقت ولا سكتت .
أما هي كانت ملقاة بحريرها المرصع بحبات الفضة
وضفائرها المقوستين كتاج ملك
وأظافرها الملونة كأنها فصول الحياة مضاف اليها فصل كان لابد وأن يرى طريقه من بين الفصول، فصل الحنين
لا تدري كيف في ذات اللحظة، باغتها ذاك الهلال المسجى على السماء ..فقد لمحته، يقترب ساطعاً بخيوطه، فوق أغنية رصينة كانت تمدد موالها على شفرات أوجاعها الساكنة، فيلتهب الليل شجناَ من تلقاء صوتها
ويبدو أنها استحسنت امتزاج حنينها بغربتها، بغنائها، ببكائها، ولا تدري أيضاً كيف استجابت حلاوة روحها الميت لجليد الحكايا الميتة في الأفق
فإذا بها تحلق في غياهب الوجود كله، في ذات الوقت الذي قررت فيه أن تنسلخ من أجنحتها المنفيين في وطن الحبيب الذي يأبى أن يعود….
وتشيخ لوحدها
فقط شيخوخة صغرى، تسمح لها بالحياة، وله بالبعد
تمنحها الحرية وتمنحه الراحة، تستر تناهيد الوسادة، وترفرف كنسيم السعادة، وتبقى ناصعة كما هي، فتظنها شمعة رقيقة كما لو أنها حديقة جميلة، كما لو أنها أنثى على أريكية الضوء واضعة رأسها، يعبرها طيف وراء طيف، تصفع هذا، وترتمي في حضن ذاك، والنافذة تبصر كل دمعاتها بصمت عاجز عن حتى المواساة.
تسمع كل تنهيداتها ما بين شهيق وزفير، ثم تقف حائرة بلا جدوى، أما سمعت عن نافذة تتسلل بحكاياتها الى ذاك الوجد الشامخ تحت جفنين مريضين يبكيان سرهما الأليم
هي هكذا كانت، ترى، وتعلم، وتسمع، وتبصر، وربما حدث أن تحشرج زجاجها الملون بدون أن يطلق أنّة واحدة يسمعها بشر
ما ثمة فرق بين وجه فتاة و نافذة، أو وجه عجوز ونافذة، أو ظل شجرة وفتاة، أو ضوء قمر وفتاة، أو إشراقة شمس وفتاة.
كلاهما يقعان في إطار قانون كوني واحد اسمه الشعور، الحزن يوحد الجميع، الحب يوحد الجميع، الوجد يوحد الجميع، الأمل يوحد الجميع، واليأس يوحد الجميع، والموت أيضاً يوحد الجميع
فإن رأيت النبع يصدر خريراً لا تعلم سره، فإن الفراشة كذلك تصدر ذات الخرير بمقام موسيقي آخر
لا يلتقط أحدا إشاراتهما الغامضة، ولا نداءاتهما المتوالية ولا رجاءاتهما المختلطة، بالدمع يناجيان نصفيهما الغريب، وسكينة قيل إنه سيأتي بها في جيبه القمري
ومن هي ! سوى كائن بشري، قطرة منسابة في غيمات هذا الكون ..وما الذي تناجيه سوى ذاتها التي انقسمت عنها، على شاكلة فارس أحلام لبس أجنحة، روحها ذات سحرٍ بعيد وطار وراء الأفق…
أين أنت !
أنائم على سطح ورقة !
ألاجئ الى حضن نجمة!
أمسافر في درب الليل القاتمة، لا يسمع أناتك إلا ذاتك البعيدة …البعيدة للغاية عنك
أتائهٌ أنت …. تائه في خريف دمائك لا تلوي إلا على سكينة لا تجدها لا في ربيع وطنك، ولا في خريف غربتك
أين أنت أيها…. ؟
ماذا فعلت برفيف روحك المجنح! ألا زال يحمل عنك عناء سفرك إلى وطن يواري غربتك .. أم تواريت عن وعثاء المشرق وغثاء المغرب .. واتجهت بكل مهجتك بعيداً .. باتجاه الأبدية.