منصور بن كدسه
حسين بن صبح الغامدي
عندما كنت طفلا كان البشر في نظري نوعين، كبار يتحدثون كلاما مهما لا أستطيع استيعابه، وصغار يلعبون.. ثم أتت وسائل الإعلام والسوشيال ميديا وحجّمت تلك الصورة في ذهني وأختلط الحابل بالنابل ولم نعد نميز بين الغث والسمين!
قبل بضع وثلاثين سنة كنت طالبا في شعبة الصحافة بقسم الإعلام، لا أتذكر ما لذي دعاني آنذاك للجلوس في مكتب رئيس القسم د. منصور بن علي بن كدسه، ولكني أتذكر أنه كان يريد أن يجري اتصالا هاتفيا، وكلما حاول استخدام الهاتف وجد سكرتير مكتبه يستخدمه، كانت الهواتف تلك الأيام مشتركة بين الرئيس والسكرتير، أو بين عدد من العاملين.
وظل الدكتور يحاول دون فائدة، رغم أن سكرتيره في المكتب المجاور له والباب فيما بينهما مفتوحا، وبإمكانه أن يناديه من مكانه ويطلب منه إتاحة الهاتف له، ولكنه لم يفعل وظلّ وقتا ليس بالقليل يكرر المحاولة، وعندما أتيح الهاتف، قال للسكرتير يبدو أن الذي كان يهاتفك مكثار أو كما قال، كانت الطريقة جديدة بالنسبة لي، وفي ذات الوقت مهذبة ولطيفة، فلم يوجّه اللوم إلى السكرتير مباشرة، بل رمى تلك التلميحة للآخر البعيد، مع العلم بأن كثيرًا من أساتذة قسم الإعلام آنذاك كانوا يُعرفَون بالحدة والوعورة.
مؤخرًا وفي إحدى قنوات اليوتيوب وقعت عيني على حديث للدكتور منصور، حديث شيق لا يمل سماعه، كان هادفا وواضحا ومرتبا يتخلله “قفشات” طريفة، فأصبحت أطارد وراء هذا الشخص من قناة إلى أخرى.. ومن يوتيوب إلى آخر، استمعت إلى حكاية عائلة بن كدسه مع الملك عبدالعزيز غفر الله له، وكذلك إلى الموقف الذي تمّ بين الملك عبدالعزيز وسعيد بن كدسه رحمهما الله.
كما أصغيت إلى سجاله مع زميله الدكتور التركستاني رئيس قسم الدراسات الإسلامية السابق في جامعة الملك عبدالعزيز، وكذلك عن فرع وزارة الزراعة ببلجرشي في بدايتها، وبعض المواقف بها، في ثنايا حديث الدكتور منصور تطرق إلى زيارة الملك سعود رحمه الله إلى منطقة الباحة، الحدث الأبرز الذي مرّ على المنطقة، والذي لازال يتناقله الناس حتى اليوم، وتحدث عن التغذية المدرسية، وقال كلاما مهما، وتحدث عن الماء والكهرباء والطرق في بداية انطلاقها، وتحدث عن “سبت بلجرشي” ولا سيما أن ذلك السوق الشهير يتربع على جزء من قريته “السلمية”، أيضا تحدث عن عدد من رجال الأعمال وخصّ ابن قريته (بن زومه) بحديث وافر..
اقتطعت ما يقارب سبع دقائق من حديث له ووضعتها في حسابي في الـ”تيك توك”، وأقترب عدد المشاهدين للمقطع من المليون، وزاد عدد المتابعين للحساب، وأنهمرت التفاعلات والتعليقات بالآلاف، وكانت جميعها إيجابية.
وكان في ذلك المقطع يتحدث عن سيناريو الأقدار التي كان أحد أطرافها، فقد اشترى سيارة جديدة وانطلق بها إلى الرياض ثم إلى الشرقية لزيارة شقيقه لتتعطل في الطريق، ويسعفهم شاب ترك عمله بعد غزو الكويت، ولم يستطع العودة إليه، إلا أن الله سبحانه وتعالى جعل د. منصور وحادثته تلك، سببا في إعادته إلى عمله، فقد كان قرار إعادته بيد شقيقه الذي سيقوم بزيارته، الحكاية بدت وكأنها سيناريو مدهشًا وعجيبًا، بل ومن المناسب أن تكون عملا فنيا وفيلما سعوديا.
ولما شاهدته من غزارة للمعلومات المفيدة وكثرة للمخزون التاريخي العميق لدى د. منصور دار في ذهني أن أنشئ قناة “بودكاست”، وأجري معه لا يقل عن عشرين جلسة أتطرق خلالها إلى جميع المراحل، وأفتح كل الصناديق التي تجاوزها الزمن، وتناساها الناس في زحمة الأعمال.
الدكتور منصور تنقل بين كثير من المدن والأعمال في مراكز هامة، من ضمنها عضويته في مجلس الشورى، وعدد من الشركات والمؤسسات، إضافة إلى انتقاله كـ أستاذ بين أكثر من جامعة.
أعود من حيث بدأت هذا المقال وأقول؛ عادت إلى ذاكرتي تلك الصورة الذهنية القديمة حول أن البشر نوعان؛ سأتطرق إلى النوع الأول فقط وهم الكبار الذين يتحدثون، وقبل ذلك يفكرون والعالم يصغي لهم بدهشة.
أحد أولئك الكبار هو د. منصور بن علي بن كدسه، ولكن هذه المرة كنت استوعب وأستمتع بما يقول، بل وأفتخر بأن لدينا في بلادنا شخصيات ذات كنوز معرفية ومعادن ذهبية وحضور جاذب.
بقي أن أدعو للدكتور منصور، وأطلبكم تدعون له؛ بأن يمن الله تعالى عليه بالشفاء والصحة، نسأله تعالى أن ينقي بدنه من كل شر، مثلما نقى فكره ومنطقه.