آخر كيس سكر

هيفاء علي نورالدين
قصة قصيرة
كان المساء يهبط ببطء، كطائر مثقل الجناحين يوشك على السقوط فوق أسطح البيوت المتلاصقة. في الحارة الضيقة، حيث تتشابك الأزقة كخيوط قديمة، انسحبت الشمس رويدًا رويدًا حتى غابت خلف مئذنة مسجد صغير في نهاية الطريق، وخيّم صمت ثقيل لا يقطعه إلا صياح طفل جائع أو نباح كلب ضال، فيما أُغلقت الدكاكين أبوابها تباعًا، كأن المدينة تُطوى صفحةً بعد صفحة استعدادًا لليل جديد.
في بيت متواضع، تقف جدرانه المائلة متساندة بعضها إلى بعض، جلست حليمة في مطبخها الضيق، محاطة برفوف خشبية متآكلة وأوانٍ ورثتها عن أمها وجدتها، وراديو قديم لا يشتغل إلا إذا ضُرب على جانبه. كانت تقلب محتويات خزانة المؤونة بعين قلقة، تبحث بين الأكياس الفارغة والجرار الفارغة عن بقايا ما يسد رمقها وأولادها. لم تجد شيئًا؛ الدقيق نفد منذ أيام، الزيت بالكاد يغطي حاجتها لليوم، والشاي لم يبقَ منه إلا ذرات لا تكفي إلا لرشفة. تنهدت في يأس، ومدت يدها إلى الرف الأخير في زاوية مظلمة، وإذا بها تلمس شيئًا صغيرًا ناعم الملمس، تسحبه في لهفة، فإذا هو كيس سكر نصف ممتلئ، مربوط بشريط أحمر باهت. اتسعت عيناها فرحًا، وارتجف قلبها وهي تضم الكيس إلى صدرها هامسة: “الحمد لله يا رب… آخر كيس سكر في البيت.”
خرج صوتها مرتفعًا وهي تنادي: “يا أولاد! تعالوا بسرعة… لقد وجدت السكر!”
ركض “محمود”، ابنها الأكبر، من فناء الدار، وهو شاب في أوائل العشرينات، يده متسخة بشحوم الحديد وثيابه تحمل آثار ورشة الحدادة التي يعمل بها متقطعًا. وخلفه جاءت “سلمى”، أصغر البنات، بشعرها المجدول وعينيها اللامعتين، تسبقها أنفاسها المتقطعة. وقبل أن تتحدث حليمة، فتحت الجارة زهرة الباب الخلفي ودخلت كعادتها، وهي تقول بابتسامة مشاكسة: “ما بالكم تصرخون؟ أهناك خبر سعيد؟ هل عادت الكهرباء أم انتهت الأزمة؟”
أشارت حليمة إلى الكيس كأنها تكشف كنزًا وقالت: “انظري يا زهرة… وجدناه أخيرًا، آخر كيس سكر في البيت.”
ساد صمت قصير، لكن النظرات التي تبادلوها لم تكن صامتة؛ كلٌّ منهم رأى في ذلك الكيس شيئًا مختلفًا. قال محمود بعجلة: “أمي، أعطيني الكيس، سأبيعه في السوق، فسعر السكر مرتفع هذه الأيام. بثمنه أشتري بطاقة إنترنت لأبحث عن عمل أو فرصة سفر، ربما يكون طوق نجاتي من هذا الضياع.”
احمر وجه سلمى غضبًا، وصرخت: “أتريد أن تبيعه؟ يا لك من قاسٍ! اليوم وعدتُ جارتنا أم رامي أن أعد لها القهوة بمناسبة خطبة ابنتها، وغدًا سيكون الجميع هناك. كيف أذهب فارغة اليدين؟ سيقولون إنني لا أفي بوعدي ولا أملك شيئًا!”
حاولت حليمة تهدئة الموقف، فقالت برجاء: “يا ولدي، يا ابنتي… السكر ليس للبيع ولا للوجاهة، رمضان على الأبواب، ونحتاجه لنعد به شربة ساخنة لأول يوم، وكسكسي حلو يجمعنا على المائدة.”
لكن زهرة هزت رأسها بسخرية وهي تجلس على مقعد خشبي: “تخاصمون على كيس سكر وكأنه ميراث! محمود يراه نقودًا، سلمى تراه وجاهة، وأنتِ يا حليمة ترينه طعامًا يشبع البطون. الحقيقة أن المشكلة ليست في السكر، بل في قلوبكم التي لا تعرف كيف تتفق.”
اشتعل محمود غضبًا من كلامها، فقال بحدة: “أنتِ لا تدركين شيئًا يا زهرة! أنا عاطل منذ شهور، وكل الأبواب مغلقة، وإن لم يكن لدي إنترنت، فلن أستطيع حتى البحث عن فرصة عمل أو طريق للهجرة.”
ردت سلمى بعناد، والدموع تترقرق في عينيها: “وأنا يا محمود، إن لم أُحضِر القهوة، فسوف يقول الناس إنني بلا كرامة، وإن بيتنا خاوٍ لا يعرف الضيافة. أتريد أن تُهينني أمام الجميع؟”
أما حليمة، فقد وضعت يديها على رأسها وجلست على الأرض وهي تردد بصوت يختنق بالبكاء: “يا رب، إلى أين وصل بنا الحال؟ السكر الذي كان يجمعنا صار يفرقنا.”
ارتفعت الأصوات حتى سمعها الجيران، وبدأ بعضهم يتجمع خلف الباب، يتنصتون إلى ما يجري في البيت. وفجأة، وفي لحظة غضب، اندفع محمود نحو الطاولة، خطف الكيس محاولًا الهرب به، فصرخت سلمى ولحقت به، وتعثر محمود بقدمه، فانفلت الكيس من يده وسقط أرضًا. انسكب السكر وتدحرجت حباته على البلاط البارد، تلمع تحت ضوء المصباح الخافت كحبات لؤلؤ متناثرة، وكأن البيت كله فقد شيئًا من روحه.
ساد صمت ثقيل، كأن الزمن توقف. جثت حليمة على ركبتيها تجمع الحبات بأصابع مرتجفة، وعيناها تفيضان دموعًا، وهمست بصوت متهدج: “يا رب… لم نُضَيِّع السكر، بل أضعنا بعضنا البعض.”
اقترب محمود منها بخجل، وجلس إلى جوارها يلتقط الحبات معها، وعيناه تلمعان بندم حارق. ثم انضمت سلمى إليهما، ويديها ترتجفان، وفي تلك اللحظة تلاقت أيديهم وسط الفوضى، في صمت مشحون بالاعتذار الذي لم يجدوا له كلمات.
رفعت زهرة رأسها نحو السماء، وقالت بخشوع: “اللهم طهِّر قلوبنا، واجعلها حلوة كحلاوة هذا السكر، ولا تجعلها تذوب إلا في فعل الخير.”
وفي تلك الليلة، بعد أن هدأ كل شيء، جمعت حليمة ما تبقى من السكر في وعاء صغير، واستخدمت القليل منه لإعداد كوبين من الشاي، لم يغيّرا طعم المرارة تمامًا، لكنهما حملا رمزًا لوحدة الأسرة. جلسوا جميعًا حول الموقد يشربون الشاي في صمت، يتذوقون قطراته القليلة كأنهم يتذوقون معنى الصفاء الذي غاب عنهم طويلًا.
وقبل أن يخلدوا إلى النوم، ربطت حليمة الكيس الفارغ بالشريط الأحمر، ووضعته في أعلى رف الخزانة، حيث لا تصل إليه الأيدي، ثم قالت بحزم: “سيبقى هذا الكيس هنا شاهدًا علينا، يذكرنا أن الحلاوة الحقيقية ليست في السكر الذي يذوب في الفم، بل في قلوبنا التي تصبر وتغفر.”
ومنذ ذلك اليوم، صار كل كيس سكر يدخل البيت يُعامل باحترام، لكن الشريط الأحمر ظل في مكانه، رمزًا لتلك الليلة التي فهموا فيها أن السكر الذي يذوب في الماء، أهون بكثير من القلب الذي يذوب من الغضب.