من الذاكرة .. رمضان «الباحة» قديماً «طعامٌ متيسّر» و«عمل دؤوب»

حاوره – فواز المالحي
تختلف الحياة الرمضانية قديماً في منطقة الباحة عما هي عليه الآن، فلم تكن طريقة اليوم الرمضاني تختلف عن سائر الأيام، إلا أن ثمة وجبات شعبية يختزن سكان الأرياف من أجلها محاصيل العام حتى يسددوا ويتصدقوا منها.
المؤرخ السبعيني قينان الزهراني تحدث عن المجتمع الريفي في رمضان: «عندما يهل شهر رمضان يسبقه استعداد يختلف عن الحاضر، فكان الاستعداد قديماً غير متكلف والطبق الرئيس هو الخبزة، وهي أكلة شعبية من العجين مع المرق، أما الإدام فهو أيضاً المتوافر، إذ قد يكون اليوم الأول من رمضان له استعداد خاص بحسب الإمكانات».
ويستطرد: «لا يختلف العمل في رمضان عن غيره من سائر أيام العام، ففي الصباح الباكر يذهب الفلاحون إلى المزارع للعمل حتى وقت الظهيرة، وقد يستريحون في قيلولة إلى صلاة العصر فقط». ويضيف الزهراني: «أما بعد العصر فينقسم البيت إلى فريقين، الأول يتكون من الرجال، فهم يذهبون لإكمال الأعمال التي لم تنجز صباحاً، ثم يعودون إلى البيت قُبيل المغرب، وبعضهم يذهب إلى المسجد مباشرة، والفريق الثاني من النساء يبدأن في عمل الخبزة، وتجد الدواخن في كل بيت تصعد إلى عنان السماء، وهن بهمة ونشاط».
وأردف: «أما الإفطار فكان رجال القرية يجتمعون في بهو المسجد قبيل أذان المغرب، منتظرين حلول الوقت، وكان بعض الميسورين يحضرون إفطاراً، إما خبزة من الحنطة العسيرية التي كانت من أغلى الحبوب آنذاك، وهم يدخرونها لمثل هذا اليوم، إذ إن لها مذاقاً مختلفاً». ويستدرك: «بالمناسبة، ليست هذه الحبوب من عسير، ولكن هذا اسمها من قديم»، ثم يتابع: «وقد يكون الإفطار من التمر، وعند خروجهم من الصلاة يتناول كل منهم جزءاً من الخبزة أو حبات من التمر، ويتم الإفطار وهم متوجهون إلى البيوت، التي يجتمع فهيا الأهل، صغارهم والكبار، على مائدة تجمعهم، ويعلو وجوههم البسمة والفرح، وأما بعد صلاة التراويح فقد يجدون فسحة ساعة أو ساعتين، يتجمع فيها بعضهم في بيت من البيوت، ثم بعدها يخلدون إلى الراحة حتى ينهضوا صباحاً وهم في غاية النشاط والاستعداد ليوم جديد».
ويقول الزهراني إن للسحور في أول يوم من رمضان بهجة وسروراً، والأهالي يسمونه «الغرة»، إذ يستيقظ كل أهل البيت صغيراً وكبيراً، يجتمعون على السحور، حتى من لا يصوم منهم، فلا يترك أحد من أهل البيت هذه الوجبة، ويقدمون في أول سحور أفضل ما لديهم، وفي الغالب يكون السمن البري، وهو غالٍ في المنطقة، ويدخر ليقدم للضيوف، لأنه فخر المائدة، لجودته العالية، وهو أيضاً رمز للضيافة، وأحياناً للبيع، حتى يستفيدوا من ثمنه لشراء بعض الملتزمات الحياتية، أما بعد اليوم الأول فيقدمون المتيسر. ويضيف: «ومن العادات الرمضانية أن ربة البيت تستيقظ مبكراً عن غيرها، من دون أن تكون هناك منبهات للاستيقاظ، وتجهز السحور في وقت كاف، ثم تقوم بإيقاظ الجميع ليجدوا الوجبة والقهوة جاهزة، ولا يشترط إيقاظ من لا يستطيع الصوم كما هي الحال في اليوم الأول».
وعن التكاتف بين الجيران قديماً، يقول: «لم يعرف أن هناك بيتاً صاموا من دون سحور إلا نادراً، لأن ربات البيوت كن يتفقدن الجيران بعد إشعال النار مباشرة، فإذا شاهدن أحد البيوت يسوده الظلام فإنهن يوقظن ربة البيت بالطرق على الباب إذا كان مجاوراً، أو الرمي على الباب بحجارة ليستيقظ من فيه، كما أن ثمة نسوة يتفقدن الحوزة كاملة، فمن لم يستيقظ فإنهن يرمين أبوابه بحجارة، حتى تصحو ربة البيت، وكانت الحوزة لا تزيد على خمسة أو ستة بيوت، وهي بعضها بقرب بعض، والقلوب بعضها أقرب إلى بعض من البيوت». ويختتم: «هذه والله قمة الإنسانية والمحبة والتآلف بين الجيران، ونبذ الأنانية».