جامعة الدول العربية .. رؤية سعودية لإصلاح العمل العربي المشترك

د. نوف بنت عبدالعزيز الغامدي (*)
في زمن تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية والاقتصادية، وتتفتت فيه التحالفات التقليدية وتُعاد فيه صياغة موازين القوى الدولية، تتصاعد التساؤلات حول جدوى الكيانات الإقليمية في منطقتنا العربية. وفي قلب هذه التساؤلات تقف جامعة الدول العربية، التي تأسست في مارس 1945 كحلم لوحدة القرار العربي وسند لاستقلال الشعوب. لكنها، بعد عقود، تبدو أقرب إلى مؤسسة لم تواكب تحديات القرن الحادي والعشرين.
اجتمعت سبع دول في القاهرة لتصوغ ميثاقًا غير مسبوق، حمل طموحات جيل كامل. لكن الميثاق نفسه، منذ اللحظة الأولى، احتوى بذرة الجمود الرئيسية: مبدأ الإجماع المنصوص عليه في المادة السابعة. هذا المبدأ، الذي بدا ديمقراطيًا ظاهريًا، منح كل دولة حقًّا ضمنيًا في نقض القرار الجماعي، مما قاد إلى شلل مؤسسي مزمن وعطّل قدرة الجامعة على اتخاذ قرارات حاسمة.
الجامعة لم تُصمم لإدارة الخلافات، بل لتجنبها. آلياتها لم تُبنَ للتحرك بفعالية، بل للموازنة بين الحساسيات السياسية للدول المؤسسة. وهكذا، ظلت حاضرة في الخطاب، غائبة عن الفعل، خاصة عند كل مفترق طرق مصيري: من فلسطين إلى العراق، ومن لبنان إلى السودان. تحولت اجتماعاتها إلى مناسبات بروتوكولية، ومجالسها إلى هياكل بلا صلاحيات تنفيذية، وآلياتها إلى بيروقراطية عاجزة، وغابت المساءلة تمامًا.
على الصعيد الاقتصادي، كانت الصورة أكثر قسوة. فرغم أن الناتج المحلي الإجمالي المجمع للدول العربية يتجاوز 3.4 تريليون دولار، إلا أن هذا الثقل لا يُترجم إلى نفوذ تكاملي فعلي. وحسب تقرير التبادل التجاري العربي البيني لعام 2024، لا تتجاوز التجارة البينية 10% من إجمالي التجارة الخارجية للدول الأعضاء، مقارنة بأكثر من 65% في الاتحاد الأوروبي، و23% في رابطة آسيان. لا يوجد صندوق سيادي مشترك، ولا منصة رقمية عربية موحدة، ولا مؤشرات أداء ملزمة للمشروعات الجماعية. الأموال العربية ما زالت تتدفق إلى الخارج بدلًا من أن تُستثمر في مشروعات عربية تكاملية.
والأدهى، أن الجامعة غابت عن الوعي الجمعي للشعوب. فقد المواطن العربي علاقته بها، فلم يعد يرى فيها منبرًا يمثله أو يحمي مصالحه. أجيال كاملة لا تعرف متى تنعقد اجتماعاتها، من يقودها، أو ماذا تُنجز. أصبحت الجامعة كيانًا غامضًا، أقرب إلى أرشيف سياسي منها إلى مؤسسة حية وفاعلة.
ورغم كل ما سبق، لا يزال هناك بريق أمل. فكل أزمة كبرى، مهما كانت مؤلمة، تفتح نافذة للمراجعة. والآن، لم يعد السؤال هو: “ماذا تفعل الجامعة؟”، بل أصبح أكثر جوهرية وجرأة: “من يملك الكفاءة لقيادتها؟”
لقد اعتدنا طوال عقود أن تكون قيادة الجامعة حكرًا على الدولة المستضيفة، وأن تؤول الأمانة العامة تلقائيًا لشخصية من نفس الدولة، بحكم المقر، التاريخ، والعُرف غير المكتوب. لكن، هل يجوز في القرن الحادي والعشرين، وفي ظل التحولات العميقة التي يشهدها العالم العربي، أن تظل هذه القيادة حبيسة التقاليد، لا ثمرة للكفاءة والرؤية والجدارة؟
في زمن تتقدم فيه قوى عربية جديدة إلى الصدارة، وتلعب فيه المملكة العربية السعودية دورًا قياديًا محوريًا في القضايا الإقليمية والدولية، بات من المشروع – بل من الضروري – أن يُطرح سؤال الاستحقاق لا المجاملة. فقيادة الجامعة ليست رمزية شكلية، بل مسؤولية تاريخية تتطلب شخصية تمتلك القدرة على إعادة هيكلة بيت العرب، لا الاكتفاء بإدارته كما هو.
إن اللحظة الراهنة، بكل ما فيها من تعقيد وفرص، تستدعي فتح باب المنافسة المؤسسية على أوسع مدى، وأن يتم ترشيح الأمين العام القادم بناءً على معايير مهنية واضحة: الكفاءة الدبلوماسية، الخبرة الإقليمية، القدرة على الإصلاح، والحضور العربي والدولي.
قد يُقال إن البيئة الجيوسياسية المعقدة في المنطقة، وتعدد الأجندات الخارجية، قد لعبا دورًا في تعقيد المشهد. وهذا صحيح جزئيًا. ولكن ما زاد الطين بلّة هو عجز الجامعة الداخلي عن التكيّف، وفشلها في تطوير أدوات مرنة تعزز استقلال القرار العربي، وتُمكّنه من الصمود أمام التدخلات والضغوط.
وفي خضم هذا المشهد، برزت المملكة العربية السعودية كقوة دافعة تنقل مفهوم القيادة من التقليدية إلى الرؤية المؤسسية. تحت قيادة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، أصبحت السياسة السعودية منصةً لصناعة التوافق، لا مجرد إدارة توازن. لم تَعُد رؤية 2030 مشروعًا وطنيًا فحسب، بل تحوّلت إلى فلسفة حوكمة تتجاوز الحدود، تقوم على التمكين، ومرونة السيادة، والريادة المرتكزة على الفعل لا الشعارات.
النهج السعودي أعاد تعريف الريادة العربية بوصفها مسؤولية تُمارس لا سلطة تُحتكر. من خلال مبادرات مثل التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب، والمشاريع الإقليمية في مجالات الربط الكهربائي والنقل والرقمنة، وجهود الوساطة السياسية، أثبتت المملكة قدرتها على ترجمة الفكرة إلى تنفيذ، والرؤية إلى بنية. وفي إطار هذا الواقع العربي المركّب، لا تسعى السياسة الخارجية السعودية إلى تجاوز الأطر الإقليمية، بل إلى تفعيلها. فالمملكة تتعامل مع جامعة الدول العربية بوصفها إطارًا يمكن تحديثه، لا كيانًا يُستبدل. تتحرك وفق واقعية استراتيجية تدفع نحو إصلاح مؤسسي هادئ، يطوّر آليات اتخاذ القرار، ويعزز فاعلية العمل المشترك دون أن يُفرغ الجامعة من رمزيتها أو مشروعها.
هذا التحول في النهج يفتح الباب أمام مقترحات قابلة للتطبيق، تبدأ بـتعديل نظام اتخاذ القرار داخل الجامعة من الإجماع الكامل إلى التصويت المؤهل في القضايا غير السيادية. كما يمكن إنشاء مجالس تخصصية مستقلة فنيًا وماليًا في مجالات الأمن الغذائي، التحول الرقمي، الطاقة المتجددة، والابتكار، تكون قادرة على وضع استراتيجيات تنفيذية وتقييم أدائها دوريًا.
ويمكن تأسيس صندوق استثماري عربي مشترك يُدار باحترافية شبيهة بالصناديق السيادية، يستثمر في مشاريع إقليمية مثل الربط الكهربائي، الموانئ الذكية، والمدن اللوجستية، مع حوكمة شفافة وآليات محاسبة. كما أن الجامعة، بوصفها حاضنة للثقافة المشتركة، يمكن أن تطلق مبادرة عربية لإنشاء هيئة للتبادل الثقافي والفكري، تعيد صياغة الخطاب العربي وتُقرب الشعوب من بعضها البعض.
لكن كل هذا يتطلب أكثر من مجرد رؤية؛ يحتاج إلى إرادة حقيقية. لا تكفي التوصيات أو الطموحات ما لم تُقرن بخطوات عملية، وقيادة تقود من الأمام لا من الهامش. والمملكة، بثقلها السياسي، وموقعها الجغرافي، وخبرتها في المبادرة والحوكمة، تبدو مؤهلة أكثر من أي وقت مضى لأن تكون المحرك الأول لهذا التحول.
إن إصلاح جامعة الدول العربية لم يعد ترفًا سياسيًا أو دعوة مثالية، بل بات ضرورة استراتيجية تمسّ مستقبل النظام العربي نفسه. وإذا لم تعد الجامعة قادرة على حمل حلم الوحدة كما كان يومًا، فقد حان الوقت لأن نعيد كتابته نحن… لا بإرث الجمود، بل بمنهجية المستقبل.
…..
(*) مستشارة تنمية اقتصادية وحوكمة إقليمية