عندما غادرت الباحة حاملًا سمو الهدف

د. سعيد بن عطية أبو عالي
يا باحة العزّ يا فيحاء بالشمم
ها أنذا عدتُّ مشتاقاً إلى القمم
غادرتُ الباحة الشَّماء وميع الصبا وسمو الهدف يدفعانني. غادرتُها واعداً أمي بخوض المستقبل المرسوم في عيني وفي قلبي. أوصتني وقالت لي أمي: تمكَّن من العلم فهذا مبتغى (أبوك)!!. وقالت زوجتي: توكَّل على الله وأنا معك حتى تحقِّق هدفك.
في مكّة المكرَّمة، مهبط الوحي وفي منطلق الدعوة الإسلامية إلى أرجاء الأرض، وفي كلية التربية بحي العزيزية تحديداً غدوتُ طالب علم لدى أساتذة من بلدي ومن السودان ومصر وسوريا والعراق وفلسطين والهند. في الكلية أصبحتُ زميلاً لطلاب من مكة المكرمة ومن أنحاء المملكة.. أتاني توفيق الله، فغدوتُ معيداً مرشَّحاً للسفر إلى أمريكا على نفقة الكلية التي تتبع وزارة المعارف آنذاك لأعود مدرِّساً فيها. وكانت بعثاتنا بتشجيع من جلالة الملك فيصل -يرحمه الله-.
في المدن الأمريكية الكبرى شعرتُ بالبرد واستلهمتُ الدفء من الباحة. في الجامعات الشهيرة هناك تمنيتُ أن أرى مثلها في بلادي.. وها قد كان وهذه جامعة الباحة تتألَّق علماً وعلماء وبحثاً علمياً وباحثين من أبناء بلدي. حصلتُ على درجة الدكتوراه في جامعة شمالي كالورادو وعدتُ إلى كلية التربية بمكة المكرمة مدرساً.
في كلية التربية بمكَّة المكرَّمة، بل في فرع جامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة ويضمُّ الفرع عدداً من الكليات الأخرى.
قادني توفيق الله لأكون وكيلاً لعمادة القبول والتسجيل مع زميلي ورئيسي الدكتور عبد الله الزيد، وبأمره ومعاونة الأستاذ نور الدين فطاني – يرحمه الله – والزميل الأستاذ صالح فلمبان استطعنا حل مشكلات مئات الطلاب والطالبات الذين تعثَّروا دراسيّاً بفعل تطبيق (نظام الساعات) لأول مرة بالجامعة، وتم تخريجهم في نفس العام.
في الكلية قابلتُ أعضاء هيئة تدريس غالبيتهم من السعوديين وكنَّا نقدِّم دروسنا لطالبات الجامعة عن طريق (الدائرة التلفزيونية المغلقة).
من هناك من الكلية طُلِبَ إليَّ الذهاب إلى المنطقة الشرقية لإدارة التعليم فيها وكانت تضم المنطقة الشرقية والأحساء والحدود الشمالية.. في الأحساء منبع معلم وفيها عائلات علمية ذائعة الصيت، وهناك تشرَّفت بزيارة مسجد جواثا وهو ثاني مسجد تقام فيه صلاة الجمعة في الإسلام، كما وزرتُ قصر البيعة الذي بايع فيه أهالي الأحساء جلالة الملك عبد العزيز – يرحمه الله.
وفي الحدود الشمالية فتحنا مدارس متعددة ونظمت إدارة تعليم متكاملة الأركان. طلبتُ إلى الوزير عبدالعزيز الخويطر -يرحمه الله- اعتمادها إدارة تعليم مستقلة تتبع الوزارة مباشرة. وتشرَّفتُ بإدارة التعليم بالأحساء لـمدة سبع سنوات -كما أذكر- وأعدنا تبعيتها للوزارة مباشرة برئاسة الزميل الشيخ إبراهيم الحسيني -يرحمه الله -.
وقد قادني توفيق الله أيضاً إلى إدارة تعليم المنطقة الشرقية للبنين وأُعطيَت للزملاء القياديين في الإدارة ولمديري المدارس صلاحيات مكَّنتهم من تحقيق نجاحات تُذكَر لهم فتُشكَر.
في هذه الأثناء وكالعادة قضيتُ أيام عيد فطر مبارك لدى أهلي بالباحة.. وحرصتُ كما هو واجبي أن أودِّع أمي – يرحمها الله – في بيت أخي مسفر يحفظه الله، وكان معي زوجتي وأبنائي محمد وعبد الله وأحمد وبناتي علياء وعزَّة.
ودَّعتني أمي بالدعاء والدموع وقالت لي: الزم تقوى الله وأنا إذا أخذ الله وداعته فيّ سألقى (أبوكم) وأعلمه بكم أنت وإخوانك علي ومسفر وعن أخواتكم لأنه وصَّاني بكم عند مماته -يرحمه الله-.
في كل مكان وفي كل زمان كانت الباحة معي.. كانت أمّاً حنوناً وحضناً عطوفاً.
في الشرقية، وفي الأحساء، وفي الحدود الشمالية بتوفيق الله ثمَّ بتوجيه الوزارة تمَّ بناء مدارس ومكتبات عامة ووحدات صحية لرعاية الطلاب وملاعب رياضية مجمعة، ومتاحف أبرزها متحف الأحساء الإقليمي.
تقاعدتُ مبكراً مثقلاً بالديون.. وأشرفتُ على الشؤون الثقافية لمؤسسة كانو التجارية.. وعملتُ عميداً مؤسِّساً لكلية الباحة الأهلية للعلوم، وأضحت مؤسسة علمية شامخة والحمد لله.
جئتُ يوماً إلى الباحة بعد غياب دام ستة وثلاثين عاماً متأبطاً محاضرة بعنوان (الإسلام والغرب: حوار لا صراع) حضرها لفيف من المثقـفين واختـــارها الأستاذ حمــد القاضي رئيس تحرير المجلة العربية الصادرة بالرياض، لتكون أول كتاب ملحق بالمجلة، ويوزَّع معها في أرجاء الوطن العربي والحمد لله.
الباحة كما قال عنها معالي الشيخ سعود بن عبدالرحمن السديري لعدد من الوزراء الذين زاروه بمكتبه وهو أمير الباحة: هي مصنع رجال تجدونهم في مكاتبكم وفي مختلف الإدارات والجهات الحكومية.
لأبي وأمي أسَّستُ جائزة الوالدين لتكريم حفظة القرآن الكريم، ويقوم أبنائي معي برعاية شؤون الجائزة وتمويلها، ولأبناء قريتي وعشيرتي أسَّستُ مشروع الزواج لجماعي لأهالي وادي العلي والمقاضية، والذي تحوَّل بعد جائحة كورونا إلى مشروع الزواج العائلي.
وأتواصل مع أقاربي ذوي رحمي من خلال برنامج (أوائل ومتفوقون لأبناء أسرة أبو عالي).
وأبقى معكم في الباحة، وفي ظلّ خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -يحفظه الله- وبقيادة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، صاحب الرؤية الثاقبة لنهضة وازدهار المملكة، ومتابعة صاحب السمو الملكي الأمير د. حسام بن سعود بن عبد العزيز أمير منطقة الباحة..
وفَّق الله الجميع وحرس بلادنا، وكتب النصر لأمتنا العربية والإسلامية، والله ولي التوفيق.