صحيفة,أخبار,جريدة,صحف,جرائد,أخبار اليوم,أخبار عاجلة,آخر الأخبار,صحيفة إلكترونية,صحيفة رقمية,منصة أخبار,بوابة إخبارية
ثقافة و فن

غرفتها على الحافة

هيفاء علي نورالدين

قصة قصيرة

لم يكن في الغرفة شيء لافت سوى النافذة.

نافذة تطل على لا شيء. لا حديقة، ولا شارع، ولا حتى سماء صافية. فقط جدار إسمنتي رمادي، وقط يتسكع أحيانًا في الزاوية، يختفي حين تمطر.

كانت “لينا” تقول: “النافذة التي لا ترى العالم… هي مرآة، لكن بلا انعكاس.”

في المساء، حين تنطفئ الشقق الأخرى، كانت تشعل شمعة واحدة وتجلس على الأرض. ليس لأنها تحب الطقوس، بل لأن الضوء الخافت لا يُجبرها على التفكير. كل ما أرادته هو أن تهدأ جدران عقلها، أن تتوقف عن الركض خلف من تركوها.

كانت الوحدة لديها مثل نبات صغير… لا يُرى، لكنه يتسلق الحائط كل يوم دون صوت.

في الدرج الثاني من خزانتها، رسائل لم تُرسل.

في علبة خشبية تحت السرير، أزرار من معطفه الذي نسيه في الشتاء الأخير.

وفي الهاتف، رقم محذوف، يعود ليلًا في الأحلام فقط.

في المقهى الذي يقع عند الزاوية، اعتادت أن تطلب قهوة سوداء دون سكر، وتراقب الغرباء كما لو كانوا يعرضون مشاهد من حياة بديلة.

امرأة تضحك بصوت عالٍ.

رجل يرتب عنق قميصه بعناية.

صبي يركض وراء حمامة.

كلّهم يعبرون، وهي تذوب.

أحيانًا، كانت تكتب في دفترها البالي: “ما أصعب أن تشبه الغياب، وأنت حي.”

وفي أحد الأيام، بينما كانت تمشي قرب البحر، التقطت صدفةً فارغة. وضعتها في جيبها وعادت للبيت. وضعتها بجانب الشمعة. قالت بصوت لا يسمعه أحد:

“كل شيء داخلي يصدف فارغة… لكني لا زلت أحتفظ بها.”

في المساء، أغلقت النافذة. الجدار ما زال هناك، والقط لم يعد. لكنها ابتسمت، ابتسامة صغيرة، كما لو أن الحزن خفّ للحظة.

وللمرة الأولى، كتبت رسالة وأرسلتها، دون أن تنتظر ردًا.

تتمة: الصوت الذي لم يضِع

حين أرسلت الرسالة، لم تضع عنوانًا للمرسل إليه.

كتبت فقط:

“إلى الذي سكنني ولم يمر، إلى الظلّ الذي تعبتُ من مطاردته.”

ثم وضعتها في صندوق البريد القريب، ذاك الذي يغصّ بالإعلانات المبللة والوعود الفارغة.

وفي طريق العودة، شعرت بشيء يتغير. لا في الشارع، ولا في السماء، بل في كتفيها.

كأن الحقيبة التي حملتها طويلاً – حقيبة الذكريات الثقيلة – خفّ وزنها فجأة.

في الليل، لم تشعل الشمعة. اكتفت بعتمة ناعمة، تحمل صدى صوت المطر.

ولأول مرة منذ زمن، لم تفكر فيه قبل النوم. بل فكرت في نفسها، كما لو أنها تعرفها قليلاً.

في اليوم التالي، وجدت ورقة صغيرة عند باب الشقة.

ليست رسالة. ولا إعلان.

فقط ورقة بيضاء، مرسوم عليها صدفة بلون أزرق باهت، وبجانبها كلمة واحدة مكتوبة بخط يشبه الريح: “ما زلتُ هنا.”

لم تعرف من وضعها. ولا إن كان المعنى يعنيها.

لكنها علقتها على الحائط، فوق النافذة التي لا تطل على شيء، كأنها تقول للجدار: “سأراك يوماً… وربما أراك الآن، بطريقةٍ أخرى.”

ثم جلست، وفتحت دفترها، وكتبت سطرًا جديدًا: “الحياة لا تعتذر، لكنها أحيانًا تربت على الكتف.” وابتسمت.

ولم يكن القط قد عاد.

لكنها كانت تنتظره، دون أن تنكسر هذه المرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com