مقالات

الموناليزا

فتحي نصيب (*)

فجأة، وبعد انصراف جميع الموظفين، دوّت صفعة حادة على قفاي.

لم أشعر بأي ألم، لكن طنينها استمر يرن في أذني لعدة ثوان.

تركت المعاملات والملفات، التفت خلفي، فوجدت صورته المعلّقة في إطار مذهّب، وعيناه تبحلقان في عينيّ مباشرة.

تحركت في الغرفة وفتحت الباب، نظرت إلى الردهة فلم أجد أحدًا.

عزوت ما حدث إلى التعب الذي يعانيه الموظفون آخر أيام الأسبوع، وظننت الأمر مجرد توهم، فقررت مغادرة مقر عملي.

خرجت من البناية متجهًا صوب محطة الحافلات، ممّنيًا نفسي بحمام دافئ يزيل عني الإرهاق. عندها انتبهت إلى صوره المنتشرة على أسطح البنايات وفي واجهات المحلات.

عُلّقت صوره فوق لوحات الإعلانات، حتى إن إحداها كانت إعلانًا عن حفاظات الأطفال، وأخرى لصنف جديد من الدجاج المسمّن جيدًا، أحسنت تربيته في المراعي.

نهضت صباح يوم الجمعة وتوجهت إلى سوق الخضار.

رأيت صوره فوق الكباري، وتحت الجسور، وفي سوق السمك، وبمحلات الخردة، وعند الجزارين، وبائعي التبغ.

طوال أسبوع كامل، كانت صورته، بابتسامته اللزجة، تحاصرني في النادي، والمقاهي، والحافلة، والمصاعد، والصحف، والبنوك، وسرادق المآتم، وصالات الأفراح، والمطار، والميناء، والمدارس، والجامعات، والساحات الشعبية، ومراكز رعاية الأمومة والطفولة، وطوابع البريد، والنقود الورقية والمعدنية، وكذلك بين أرفف الكتب بالمكتبة العامة، وفي السينما، وبمحلات الحلاقة، والمستشفيات، وسيارات الأجرة.

كانت عيناه تتحركان أينما اتجهت، تتبعان الناظر إليهما – أيًا كان موقعه أو زاوية رؤيته – كعيني الموناليزا.

ترى، هل ما يحدث لي حقيقة أم أوهام؟

صرت أراه في اليقظة والمنام. كان يطل علينا في برامج التلفزيون، وملاعب كرة القدم، وحفلات ختان الأولاد، وبرامج الرسوم المتحركة، وقبل أي فيلم وثائقي، سواء كان عن الحيوانات في سيرينغيتي ببراري إفريقيا، أو عن البطريق الإمبراطوري في القطب الجنوبي، وقبل بداية المسلسل التركي المدبلج، بل وُضعت صوره على أكياس أرز (أنكل بينز)، وفي الاحتفال بالأعياد والأسابيع بمختلف أنواعها، عيد الأم والشجرة والمرور والبيئة والتبرع بالدم وأعياد الفطر والأضحى وعيد الحب والنوروز والسنة الصينية الجديدة، والاحتفال بيوم الاستيلاء على السلطة وعيد مولده ومولد أولاده الأكبر والأوسط والأصغر وذكرى وفاة والدته وخالته.

ذات ظهيرة، أغلقت باب مكتبي وخاطبته قائلًا:
“حلّ عن سمائي.”

فأجاب، بابتسامة لزجة:
“قاعد على قلبك.”

سألته:
“ماذا تريد مني؟”

فخاطبني: “أنت، يا حشرة، ماذا تريد؟ ألا ترى الملايين القانعة؟”

أغلقت باب الحوار وفتحت باب المكتب وغادرت إلى بيتي مضطربًا.

لاحظت زوجتي حالتي فاستفسرت عمّا بي، فقلت: “لا شيء، إنني مرهق.”

ساعدت طفلتيّ على حل بعض الفروض المدرسية، فكانت صورته في مقدمة كتب المطالعة والحساب، بل إن طفلتيّ هتفتا في صوت واحد: “بابا”، حين رأتا صورته في كتاب العلوم والصحة.

صحت: “فاض الكيل!”

رمقت زوجتي، لكنها كانت مشغولة برتق جواربي، فبلعت غصّتي ووأدت صرختي.

لجأت إلى فراشي مبكرًا وأطفأت الإضاءة، فالتحقت بي زوجتي وقالت: “أراك متغيرًا هذه الأيام، حتى إنك أهملت عادة القراءة قبل النوم.”

وددت البوح لها بما يعتمل في صدري، فقلت لها: “عزيزة.”

فقالت: “يا نعم.”

بعد تفكير قلت: “لا شيء، تصبحين على خير.”

فقالت بهدوء: “طيب، نم لعلك تستريح.”

في هدأة الفجر، صاح ديك جاري.

استويت جالسًا فإذا به ممدد على فراشنا، يتوسطني وزوجتي الغارقة في النوم.

قفزت من سريري وفركت عينيّ، فإذا هو بشحمه ولحمه يبحلق بي.

كان مختلفًا عن صوره، حيث تراكمت التجاعيد على جبينه وصدغيه. ابتسم، أخرج لي لسانه وغمز بعينه.

حدقت إليه، فاكتشفت أنه يشبه الموناليزا، إذ كان مثلها بدون حاجبين ولا أهداب.

……

(*) قاص وكاتب من ليبيا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com