مقالات

الموظف 47

هيفاء علي نورالدين

كان يوسف يصل إلى المبنى كل صباح في الموعد ذاته، الثامنة إلا خمس دقائق، يحمل كوب القهوة الورقي ويجلس إلى مكتبه الرمادي رقم 47.

كل شيء من حوله منضبط كما لو أن الحياة تدور وفق جدول أعمالٍ رسمي:

صفّ المكاتب المتطابقة، الملفات المكدّسة، والوجوه التي تبتسم دون سبب محدد.

كان موظفاً في “الإدارة العامة للتدقيق والمراجعة”، دائرة لا يعرف أحد وظيفتها الحقيقية. كل ما يعرفه هو أن البريد الداخلي يضع على مكتبه ملفاً جديداً كل يوم، يحمل عبارة رسمية مطبوعة في أعلاه: “تعليمات من الإدارة العليا – سري للغاية”.

يفتح يوسف الملف بجدّية، يقرأ الأوراق المتكررة ذات العبارات الباردة:

> “التحقيق في المخالفات الإجرائية للموظف رقم (….)”

وفي نهاية الملف، توقيع غير مقروء، ختم أحمر باهت، وملاحظة بخط اليد:

“يُحال الملف بعد الإنجاز إلى القسم المختص”.

في البداية، كان يظن أن عمله مهم.

كان يراجع الأسماء بدقة، يدوّن الملاحظات، ويشعر أنه يؤدي دوراً في إصلاح خلل ما في الدولة.

لكن بمرور الأيام، بدأ يشعر أن كل شيء يدور في دائرة مغلقة.

الملفات تتشابه، الأسماء تتكرر، والنتائج لا تخرج من الغرفة أبداً.

وذات صباحٍ بارد، فتح يوسف ملفاً جديداً، ليجد اسمه هذه المرة في خانة “المتهم”.

تجمّد في مكانه، كأن الحياة كلها توقفت عند تلك الجملة.

قرأها مراراً وتكراراً، ليتأكد أن عينيه لم تخطئا.

الاسم واضح، الرقم الوظيفي صحيح، والملاحظات تصف تصرفاتٍ يعرفها تماماً: تأخر عن العمل، ارتباك في الرد على المراسلات، تردّد في اتخاذ القرار.

شعر بأن المكتب يدور من حوله، وأن القهوة فقدت طعمها.

لم يقل شيئاً لأحد، طوى الملف ووضعه في الدرج، ثم تابع عمله في اليوم التالي كأن شيئاً لم يكن.

لكن الملفات التالية بدأت تشبهه أكثر فأكثر.

وجوه المتهمين فيها تحمل ملامح قريبة من وجهه.

التقارير تصف أخطاءً ارتكبها هو شخصياً، أو فكّر بارتكابها.

ومع الوقت، صار يشك أن الجميع هنا يحقق في نفسه دون أن يدري.

في الاستراحة، جلس مع زميله سامي، الرجل الهادئ الذي لم يتكلم يوماً إلا بقدر الحاجة.

قال له يوسف هامساً:

– سامي، هل فتحت يوماً ملفاً فيه اسمك؟

ضحك سامي بخفّة وقال وهو يهمّ بإشعال سيجارته:

– كلنا يا يوسف… لكننا نتظاهر أننا لا نرى. الإدارة العليا لا تحب الفضول.

لم ينم يوسف تلك الليلة.

كان يفكر في شكل تلك الإدارة العليا:

من يجلس هناك؟

هل هناك فعلاً أشخاص، أم أننا نحن الإدارة العليا دون أن نعلم؟

في الصباح، جاءه ملف جديد.

فتح الغلاف بارتباك، فوجد صورة قديمة له، يوم تعيينه قبل عشر سنوات، يبتسم أمام الكاميرا بثقة.

تحت الصورة توقيع بخط واضح هذه المرة:

> “تُغلق القضية نهائياً عند اكتمال الاعتراف”.

لم يفهم.

لكن في المساء، عندما غادر المكتب، شعر أن كل العيون في الممر تلاحقه.

عند الباب، التفت وراءه، فرأى المكاتب تضيء واحداً تلو الآخر من تلقاء نفسها،

كأنها تستعد لاستجوابه في الغد.

وفي اليوم التالي، لم يصل يوسف إلى العمل.

لكن المكتب رقم 47 لم يُترك فارغاً.

جلس فيه موظف جديد، شاب متحمس يحمل كوب القهوة ذاته، وفتح ملفه الأول بحماسٍ واضح.

كان الملف يحمل العبارة ذاتها:

“تعليمات من الإدارة العليا – سري للغاية.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com