الذائقة الأدبية وجدل التلقي

صفاء الأحمد (*)
تبدو الذائقة الأدبية، في ظاهرها قدرة على تمييز الجميل من غيره، غير أنّها في جوهرها بنية نفسية معرفية متداخلة، تنشأ من تفاعل عميق بين الوجدان والإدراك، وبين التاريخ الباطن للذات ومخزونها الثقافي، وما تسميه الفلسفة وعي الكينونة في مواجهة الجمال.
يتكوّن تلقي النّص الأدبيّ عبر مسار طويل من التشكل الوجداني والذهني، تتخلله التربية واللغة والتجربة، والجرح الإنساني الأول، وبهذا نستطيع القول بأن التلقّي لا يحدث لحظة القراءة.
حيث يتلقّى القارئ النّص كما تشكّل وعيه بالعالم، فلا يدركه بمعناه اللغوي فحسب؛ يدركه بصدى هذا المعنى في البنية النفسية له.
مهما اتسعت دلالة الكلمات تُصبح في لحظة القراءة مرايا داخلية، تعكس ملامح المشاعر الإنسانية.
ولعلّ اختلاف الناس في تلقي النصوص نابع من اختلاف الدرجة التي يصغي بها كلّ منهم إلى ذاته وهو يقرأ؛ فالقارئ الذي اختبر الفقد مثلا سيقرأ الحنين في جملة عابرة، والقارئ الذي عاش الطمأنينة سيتجاوزها دون أثر.
وهكذا، تتحوّل القراءة من فعل لغوي إلى تجربة وجودية، ومن تذوّق جمالي إلى تأويل ذاتي للعالم.
حيث يُقرأ النّص بعيون متراكبة، عين اللغة، وعين الذاكرة، وعين الرغبة.
وما نسميه الذائقة الأدبية ليس سوى هذا التوازن الخفيّ بين تلك العيون الثلاث؛ ميزان داخليّ لا يصدر حكمه باسم الجمال المجرّد بقدر ما يُخضعه لا شعوريًّا للخبرة الإنسانية الكامنة خلفه.
ولأنّ الوعي الجمالي هو في ذاته فعل فلسفي، فإنّ الذائقة الأدبية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقدرة الفرد على إدراك المعنى في الفوضى، والانسجام في التناقض.
كلّ قارئ يحمل في داخله فلسفته الخاصة في النظر إلى الوجود، فنجد في النّص الواحد عوالم متعدّدة بعدد من يتلقاه.
وإذا كان الفنّ هو ما يُثير الحسّ الجمالي، فإنّ التربية –بمعناها النفسي والثقافي– هي التي تصوغ هذا الحس وتُهذّبه.
وهكذا، تتجلّى الذائقة كنتاج لتربية داخلية معقّدة، تجمع بين اللغة والخيال والانفعال، وتتحوّل مع الزمن إلى منظومة استجابة جمالية تتغير بتغير التجربة الإنسانية ذاتها.
لذلك، حين يقول القارئ إنّ نصا ما لامسه فهو في الحقيقة يعني أنّ النصّ استثار في داخله منطقة لم يكن يعرف وجودها من قبل.
وهكذا، يغدو التلقي الأدبي عملية خلق موازية، يشارك فيها القارئ الكاتب في إنجاب النصّ من جديد بمعناه الوجودي العميق.
إذن الذائقة الأدبية، ليست ملكة فنية فحسب هي موقفك وموقفي من العالم، مواقفنا الّتي تتجلى في كيفيّة رؤيتنا للجمال، وفي مدى استعدادنا لأن نُصاب به.
……………
(*) كاتبة وناقدة أردنية