مقالات

معنى الحياة بين الفلسفة والتجربة الأدبية

د. آمال بوحرب (*)

يعدّ السؤال عن معنى الحياة محورًا أساسيًا من محاور الفكر الإنساني منذ أن انبثقت أولى الشرارات الفلسفية في التاريخ الإغريقي القديم، فهذا السؤال الذي يبدو بسيطًا في ظاهره، ينطوي على أكثر القضايا تعقيدًا في الوعي البشري، إذ يتعلّق بجوهر الوجود ومآل الإنسان وغايته من الكينونة، استفسار ميتافيزيقي، تجربة وعي مُفعَمة بالدهشة والحيرة والتمرّد، تضع الإنسان في مواجهة ذاته والعالم.

 فمعنى الحياة يُولد في لحظة تصادم بين محدودية الإنسان ولامحدودية الأسئلة، بين عبثية العالم ورغبته في أن يمنحه معنى ما، يجعل التفكير هنا فعلًا إبداعيًا مقاومًا للموت الروحي، وإعلانًا متجددًا عن قدرة الإنسان على تحويل اللامعنى إلى أفق للخلق والتجاوز.

الوجودية والتفكير فعل خلق إبداعي

تقدّم الفلسفة الوجودية الإنسان ككائن يملك حريته الكاملة في صنع ذاته، وتحديد هويته خارج كل النماذج الجاهزة والأطر المحددة، فالوجود عندها يسبق الجوهر كما صاغه سارتر، بمعنى أنّ الإنسان يأتي إلى العالم دون ماهية ثابتة، ثم يصوغ جوهره عبر أفعاله وقراراته ومسؤوليته الأخلاقية والفكرية، التفكير الوجودي ليس تأملًا هادئًا بل هو اشتعال دائم، فعل إرادة وخلق، يختبر فيه المرء قدرته على تحويل القلق إلى حافز للحرية.

أما “ألبير كامو” فقد وقف في قلب العبث الوجودي ليجعل من الوعي ذاته شكلًا من أشكال المقاومة في “أسطورة سيزيف” تَمثُل صورة الإنسان وهو يدحرج الصخرة رمزًا لتلك الإرادة التي تدرك عبثية الحياة، لكنها ترفض الاستسلام لها، إنّ التفكير لدى كامو هو تمرّد على اللامعنى عبر تحويل الفعل اليومي إلى نصرٍ صغير ضدّ العدم، إنه وعيٌ يزرع في الفراغ بذرة أمل ووعيٌ يجعل من الفلسفة شكلًا من أشكال الشعر — لا بحثًا عن معنى جاهز، بل عن معنى يُخلَق بكل لحظة

التفكير وتجاوز الذات

لحظة التفكير التأملي هي لحظة انعتاقٍ مؤقت من أسر الغرائز والرغبات التي تهيمن على الكائن البشري، ففي تجربة التأمل كما يصفها شوبنهاور يغدو الإنسان قادرًا على رؤية العالم بصفاءٍ جديد، بعيدًا عن إرادة الامتلاك والسيطرة، هذا التأمل يُنتج معرفة ويكشف عن زيف الرغبات العابرة التي تُكدّر صفو الحياة، ومع إدراك هذا الزيف يُدرك الإنسان فراغ العالم، لكنه في الآن ذاته يكتشف النور الخفيّ في هذا الفراغ، نور الوعي الذي يُعيد تعريف الكينونة.

ومن هنا يتولّد السؤال الجوهري هل يتكوّن معنى الحياة من خلال النفي والزهد، أم أنّ النفي ذاته يتحوّل إلى طاقة خلقٍ جديدة للذات التفكير، حين يبلغ أقصاه يصبح جسرًا بين الفناء والميلاد، بين الموت الرمزي والنهضة الروحية، فالفكر الأصيل يهرب من العدم يمرّ عبره ليصنع منه إمكانية جديدة للوجود في “هكذا تكلّم زرادشت” يثور نيتشه على الأنساق الأخلاقية السائدة، داعيًا الإنسان إلى إعادة ابتكار قيمه بنفسه بعد انهيار المرجعيات الميتافيزيقية والدينية

 فالتفكير عنده هو الفعل الخلّاق الذي يبدع المعنى من داخل الحياة نفسها لا من خارجها هذا الفكر يطلب من الإنسان أن يحتفي بمصيره وأن يرقص مع تناقضاته بدلًا من النفور منها.

نيتشه يعلّمنا أنّ مواجهة الحياة يخلق معنى يليق بكرامة الإرادة الإنسانية غير أنّ هذا التحرّر من القيم القديمة لا يخلو من خطر فهو يحمّل الإنسان عبء أن يكون وحده الخالق والمعيار مما يدفعه إلى أقصى درجات المسؤولية الفكرية والروحية، إنّها ثورة وجودية تضع الفلسفة فوق الميتافيزيقا لتجعل الإنسان سيد مصيره وصانع معناه

طه حسين الفكر كقوة خلق الذات

تجربة طه حسين بما حفلت به من معاناة وتحديات تشكّل درسًا حيًّا، في كيف يتحوّل التفكير إلى وسيلة نهوض وتحرّر، في “الأيام” يصوغ طه حسين سردًا يتجاوز السيرة الشخصية نحو بناء ذات عقلية ناقدة تواكب عصرها وتفكك التقاليد الجامدة، فالتفكير لديه ليس مجرد ممارسة عقلية، بل فعل تحرّر اجتماعي وثقافي وروحي، من خلال الجمع بين العقلانية الحديثة والوفاء للتراث استطاع أن يخلق نموذجًا للذات المفكّرة التي تُعيد تشكيله، تجربة طه حسين تؤكّد أنّ الوعي لا يُنتج من التوافق بل من الصراع، وأنّ الفكر يمكن أن يكون طريقًا لتعويض النقص الجسدي بنورٍ معرفي يوقظ الأمة من سباتها.

ابن خلدون والتفكير لإعادة تشكيل الوعي الجماعي.

في مقدمته العميقة يكشف ابن خلدون عن بنية الفكر الاجتماعي بوصفها حركة داخلية، تحكم صيرورة التاريخ الإنساني، فالحضارات في نظره نظامٌ تحكمه القوانين الإنسانية والعوامل الاجتماعية، هذا الوعي التاريخي الذي أسّسه ابن خلدون يضع التفكير في موقعٍ مركزي داخل بنية الوجود الجماعي،

ومن خلال مفهوم العصبية نفهم أنّ الأمم لم تنهض يوما بالعاطفة وحدها، ولكن بإدراك القوة المشتركة التي توحّدها، إذ يتحوّل التفكير النقدي إلى وسيلة للفهم والإصلاح معًا، بهذا المعنى يجعل ابن خلدون من الفكر الإنساني أداة لتجديد الحضارة ومواجهة الانحطاط، واضعًا الأساس لعلم اجتماعٍ يربط بين المعرفة والوعي الحضاري.

عبد الرحمن منيف النقد الروائي للحداثة وتفكيك الوعي

في “مدن الملح” يُقدّم منيف رؤية روائية تكشف تصدّع الإنسان العربي الحديث، تحت ضغط الحداثة النفطية، تلك المدن التي تنهض فجأة من رمال الصحراء وهي مجرّد رموز للتحوّل الاقتصادي، وكذلك صور مأساوية للاغتراب وفقدان المعنى عبر شخصياتها الممزقة، بين الأصالة والاغتراب يتحوّل العمل إلى مختبر فكري يقرأ التغير الحضاري بعيون إنسانية ناقدة

النقد لدى منيف لم يكن موقفًا سلبياً ولكنه رؤية فلسفية، ترى أنّ التفكير هو شرط المقاومة ضد إغراءات المادية والعولمة، فالرواية هنا ليست سردًا تخييليًا فحسب، بل آلة معرفية تفضح التحوّلات وتعيد ابتكار الوعي الإنساني في مواجهة الحداثة القاسية

غسان كنفاني الفكر كصرخة وجودية

في “رجال في الشمس” يبلور كنفاني مأساة الإنسان الفلسطيني في صورة كونية للاغتراب والخذلان، إنّ سؤال الرواية “لماذا لم يدقّوا جدران الخزّان” ليس تساؤلًا عن مصير أفراد، بل عن ضمير أمة صامتة التفكير، هنا فعل مقاومة، صرخة ضد الصمت، وإدانة لغياب الفعل الواعي

يحوّل كنفاني المأساة إلى موقف فلسفي، يرى في الوعي الجمعي طريق النجاة من الموت الرمزي، فالبطل في رواياته يموت لأنّه لم يُفكّر بما يكفي ليكسر الجدار، وهكذا يصبح التفكيرُ ذاته شرطَ الحياة، والوعي سلاحًا ضدّ العدم

نجيب محفوظ الصراع بين الذات والقيم في المدينة الحديثة

يبرز نجيب محفوظ في “اللص والكلاب” صراع الإنسان في مواجهة مجتمعٍ ينهار قيميًا تحت وطأة التحوّل السريع، سعيد مهران ليس مجرد مجرمٍ يطلب الانتقام بل كائن يبحث بلا جدوى عن معنى وسط مدينة فقدت روحها، المأساة هنا وجودية بامتياز، الذات تصطدم بالعالم دون أن تجد توازنًا بين الإرادة والمصير، فمحفوظ يعرّي التناقضات، فالمجتمع المتحوّل لا يتيح خلاصًا حقيقيًا والذات الثائرة تُحاصر بعبث الواقع، ومع ذلك فإن التفكير النقدي الذي تحمله رواياته يبقى تعبيرًا عن الأمل في استعادة إنسانية ضائعة داخل زحام القيم المتآكلة

محمود المسعدي السرد رحلة رمزية للوجود:

في “السد” يجعل محمود المسعدي من السرد أفقًا رمزيًا لخوض معركة الوجود ضد الفناء بطل الرواية يبني سدًا في وجه الطوفان، و كفعلٍ هندسي يرمزٍ لمقاومة العدم والرغبة في الاستمرار، إنّ السدّ هنا يعبر عن بنية مادية وجدار يرمز إلى الإصرار على منح الحياة معنى أمام قوى الطبيعة الغامرة

يتحوّل السرد عنده إلى فعل فلسفي يتجاوز الوصف إلى التأمل فيصبح النص فضاءً لتجريب العلاقة بين الإنسان والمصير، إنّها فلسفة مكتوبة بلغة الأدب حيث يتحوّل الحرف إلى مقاومة والخيال إلى وعي

التفكير في الحياة خلاصة الإبداع الإنساني

تُظهر هذه الرحلة الفلسفية والأدبية الممتدة أنّ التفكير هو جوهر الحياة ومعناها الأعمق فالحياة لا تُمنح للإنسان مكتملة، وعليه أن تُصبح ذات قيمة بقدر ما يُبدع، معناها التفكير بهذا المعنى ليس مجرد نشاط عقلي بل هو جوهر الوجود، فعل دائم من القلق والتمرد والخلق

أخير يجوز القول بأن الحياة تُفهم حين تُعاش كعملٍ فنيٍّ مفتوح تتجاذب فيها الحرية والمسؤولية الصراع والسكينة العبث والمعنى إنّ الحياة إذ تُرى بهذا المنظار تتحول إلى قصيدةٍ كونية تُقرأ بالعقل وبالوعي الذي يصنعها من جديد كل يوم.

ولكن كيف تستطيع هذه المفاهيم الثابتة أن تصمد في عصر مليء بالتغيرات؟

………

(*) باحثة وناقدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com