الحب حسب القانون رقم (13)

هيفاء علي نورالدين
قصة قصيرة
لم يكن عمر يدرك أن كلمة “أحبك” يمكن أن تُدوَّن يومًا في محضر رسمي.
كان موظفًا بسيطًا في إحدى شركات المقاولات الكبرى، يعمل في شارع القصر، رجلٌ هادئ الطباع، يعيش على تفاصيل صغيرة تمنحه شعورًا بالجدوى — فنجان قهوة الصباح، التحية العابرة من زملائه، وصوت ضحكة واحدة كان ينتظرها كل يوم.
نجلاء تعمل في قسم المشتريات، فتاة مهذبة رزينة لا تثير الجدل، لكن شيئًا في نظرتها كان يحرّك في عمر رغبة الحياة من جديد.
لم يقترب منها إلا بعد شهورٍ طويلة من الصمت، حين قال في لحظة صدق نادرة:
“لا أريد أن أسبب لكِ إزعاجًا، لكن يبدو أنني أحببتك أكثر مما ينبغي”
ابتسمت بخجل وقالت بهدوء:
“وهل الحب مسموح به في لائحة العمل يا عمر؟”
ضحك قائلاً:
“القوانين تنظم كل شيء… إلا القلب.”
مرّت الأيام، وبدأت الهمسات تتناثر في المكاتب.
كلمات عابرة تحولت إلى حديثٍ يتناقل بين الأقسام.
وفي صباحٍ باهت، استدعت المديرة نجلاء إلى مكتبها، وقالت بنبرةٍ جافة:
“هل تربطكِ علاقة بزميلك عمر؟ الناس يتحدثون، وهذا قد يسيء لسمعة الإدارة.”
تلعثمت نجلاء وقالت بصوتٍ خافت:
“لا علاقة رسمية بيننا، لكنه… قال إنه يحبني.”
تلك الجملة القصيرة، الصادقة، كانت كافية لفتح ملف تحقيقٍ إداري عنوانه:
“سلوك غير منضبط بين موظفَين داخل بيئة العمل.”
حين استُدعي عمر للتحقيق، جلس أمام المحقق بهدوءٍ غريب.
سأله الموظف المسؤول بلهجةٍ رسمية:
“هل تربطك علاقة بالآنسة نجلاء؟”
قال عمر:
“علاقة؟ لا. لكنني أخبرتها أنني أحبها. هل هذا ممنوع؟”
أجاب المحقق دون أن يرفع رأسه:
“القانون رقم (13) يمنع أي علاقة شخصية بين الموظفين داخل المؤسسة، سواء كانت عاطفية أو اجتماعية، إذا أثّرت على الانضباط.”
قال عمر بابتسامةٍ حزينة:
“لكنني لم أؤثر على شيء… فقط أحببتها بصمت.”
في اليوم المحدد للجلسة الإدارية، جلست نجلاء في الجهة المقابلة منه.
بدت مرتبكة كمن يشهد على جريمة لا يعرف إن كان فاعلها أو ضحيتها.
قال رئيس اللجنة:
“يا آنسة، هل تعرضتِ لأي مضايقة من الموظف عمر؟”
أجابت وهي تنظر إلى الأرض:
“لا، لم يؤذني أبدًا… لكنه صرّح لي بحبه، وخفت أن يسبب ذلك لي مشاكل.”
تنهّد عمر وقال بهدوءٍ كأنه يعتذر:
“ما كنت أريد أن أؤذيها، فقط لم أعرف كيف أخفي قلبي بعد الآن.”
سادت لحظة صمت ثقيلة قبل أن يقول أحد أعضاء اللجنة ساخرًا:
“يبدو أننا أمام حالة حب تحتاج إلى مادة قانونية جديدة!”
لكن أحدهم تلا القرار بعد أيام:
“نقل الموظف عمر إلى فرع الشركة بمدينة أخرى حفاظًا على بيئة العمل.”
لم يحتج عمر.
جمع أغراضه بصمت، وترك على مكتبه رسالة قصيرة بخط يده:
“لم أخالف قانون الشركة… فقط خالفت قانون الصمت.”
بعد أشهر، تلقت نجلاء اتصالًا من رقمٍ لم تعرفه.
كان صوته يأتي من بعيد، متعبًا كأن المسافات بينهما صارت جدارًا من الزمن.
قال لها:
“ظننت أن الحب يُحاسَب عليه فقط أمام الله… لم أكن أعلم أن له رقمًا في القانون.”
ثم سكت لحظة وأضاف:
“ربما كنت مذنبًا لأنني قلت الحقيقة.”
ولم تسمع صوته بعدها أبدًا.
قال بعض الزملاء إنه استقال، وقال آخرون إنه سافر.
أما هي، فكانت تمر أحيانًا أمام مكتبه القديم، فتجد ورقة بيضاء خلف زجاج الطاولة، كتب عليها بخطٍ مرتجف:
“أثبتُّ حبي بما خسرت.”
وفي النهاية، لم يعرف أحد إن كان عمر عاشقًا مخلصًا أم رجلًا توهّم المشاعر في وحدته.
ولم يعرف أحد إن كانت نجلاء ضحية الخوف أم شاهدةً على صدقٍ لم تستطع احتماله.
لكن بقيت في ملفات الشركة مادة جديدة أضيفت هامشًا في القانون رقم (13):
“يُمنع الحب إذا عطّل العمل، لكنه لا يُحاسَب إن كان صادقًا.”