عجوز تنتظر في البريد كل خميس

هيفاء علي نورالدين
قصة قصيرة
كانت “أم الخميس” هو اسم يومها المفضل. ليس لأنها كانت تهوى سوق المدينة الصاخب أو تحب رائحة القهوة التي تتسرب من المقهى المجاور، بل لأن الخميس كان ميعادها الأبدي مع “مكتب البريد”.
اسمها “فاطمة”، لكن موظفي البريد، وحتى العجائز اللاتي كن يتشاركن معها انتظار المعاشات، كن ينادينها بـ “أم الخميس”. امرأة تجاوزت الثمانين ربيعاً، تحمل على ظهرها سنوات طويلة من الصبر الأنيق، وعلى وجهها خريطة محفورة من التجاعيد التي تحكي قصصاً لم تُروَ بعد.
كل خميس، عند تمام الساعة التاسعة صباحاً، كانت فاطمة تقف أمام باب البريد قبل أن يُفتح. كان وقوفها أشبه بطقس قديم، لا يتغير ولا يتبدل. ترتدي ثوباً داكناً، غالباً ما يكون كحلياً أو رمادياً، وتضع على رأسها منديلاً قطنياً أبيض ناصعاً، مُكفّى بعناية فائقة. في يدها، حقيبة جلدية بالية، لونها بني غامق، لا تحمل بداخلها سوى القليل من النقود المعدنية لثمن تذكرة الحافلة وكيس قماشي صغير يحوي حبات من الحلوى الجافة لتهدئة رعشة الانتظار.
لم تكن فاطمة تنتظر معاشاً، ولا رسالة رسمية، بل كانت تنتظر ما هو أثمن وأكثر هشاشة: رسالة من ابنها الوحيد “سالم”، الذي هاجر قبل عشرين عاماً إلى أرض بعيدة، بحثاً عن “الفرصة التي لم يعد يوفرها هذا الوطن لأبنائه”، كما كتب في رسالته الأولى والأخيرة.
في البداية، كانت الرسائل تأتي كل شهر. خط يده الواضح، حكايات عن الثلج والعمل الشاق، ووعود بالعودة. ثم صارت كل شهرين، ثم صارت موسمية، ترتبط بالأعياد، ثم انقطعت تماماً لمدة عامين، قبل أن تعود كـ “إبرة في كومة قش”، رسالة يتيمة في تاريخ غير متوقع، تحمل اعتذاراً قصيراً ووداً باهتاً.
وفي أحد الأيام، جاءت رسالة غيرت كل شيء. لم تكن من سالم، بل من “ساعي بريد” في تلك المدينة الغربية، يخبرها أن سالم قد تعرض لوعكة صحية، وأنه طلب منه، في حال تأخر رده، أن يكتب لها بطاقة بريدية قصيرة كل شهرين، حتى يستعيد عافيته، لكي لا تقلق الأم العجوز.
وكانت تلك البطاقة، التي لا تحمل توقيعاً واضحاً، هي ما جعل الخميس مقدساً.
تدخل فاطمة مكتب البريد. تخطو خطواتها الثقيلة نحو النافذة التي تعرفها جيداً، نافذة “الطرود والبريد المسجل”. كان الموظف الشاب، الذي لا يتجاوز عمره الخامسة والعشرين، والذي شاهدها تكبر وهي تنتظر، يبتسم لها بـ “شفقة مهذبة”.
”صباح الخير يا أم الخميس.”
”صباح النور يا ولدي. هل من جديد اليوم؟” كانت عيناها تتسعان قليلاً، كأنهما تبحثان عن ومضة ضوء خلف زجاج النافذة.
في الغالب، كان يهز رأسه نفياً. لكن نبرته لم تكن جافة، بل كانت معبأة بإحساس بالذنب لا يشعر به سواها. فكانت تجيبه بابتسامة خفيفة، ابتسامة تعرف كيف تجمع بقايا الأمل وتدسها في جيبها الداخلي.
”لا بأس يا ولدي. لعلّ الخميس القادم يحمل الخير.”
ثم كانت تجلس على مقعد خشبي قديم في زاوية صامتة، تنتظر بصمت. كانت تجلس لساعات. تراقب حركة الناس، أصوات الطوابع وهي تُختم، همسات الموظفين. كانت ترى في كل غريب يمر بابنها سالم، وفي كل طرد مربوط بحبل غليظ، رسالة لم تستطع أن تصل إليها.
لكن فاطمة لم تكن تنتظر رسالة عادية. كانت تنتظر “إقراراً”. إقراراً بأنها لا تزال موجودة في خارطة حياة سالم، بأن خيط الحبل السري لم ينقطع، بل امتد ليعبر البحار والقارات. كانت رسالتها هي أنفاسها، دليلها على أن الزمن لم يبتلع ماضيها الجميل بالكامل.
في أحد أيام الخميس، وبعد مرور أربعة أشهر من الصمت التام، ناداها الموظف بصوت مضطرب.
”يا أم الخميس… هناك شيء لك اليوم.”
نهضت فاطمة بسرعة، لم تعد عجوزاً للحظة. اقتربت من النافذة وكأنها تسير فوق سحابة. قدم لها الموظف صندوقاً صغيراً ملفوفاً بورق بني.
”إنه طرد. مدفوع مسبقاً، من نفس العنوان القديم.”
فتحت فاطمة الصندوق في زاوية البريد، تحت نظرات فضول خجولة من موظفين آخرين. لم يكن بداخله رسالة. كان يحوي “قفازاً صوفياً” أحمر اللون، وقرب القفاز كانت هناك ورقة بيضاء مطوية، بخط غير مألوف.
قرأت فاطمة بخط يد مرتجف، بصعوبة تفك رموز الكتابة الإنجليزية التي اعتادت أن تراها في البريد الأجنبي:
”عزيزتي فاطمة، أنا “إيما”، زوجة سالم. أحاول أن أعتني به قدر المستطاع، ولكن حالته تدهورت في الفترة الأخيرة، ولم يعد قادراً على الإمساك بالقلم. هذا القفاز هو ما كان يحيكه لي العام الماضي في الشتاء، وقبل أن يكمل القفاز الآخر، أُدخل المستشفى. لقد وجدت دفتر ملاحظاته القديم، وفيه هذه الكلمات: ‘أخبروا أمي… أن يدي اليسرى، هي اليد التي كانت تحيك لها أجمل أحلامي’.”
ساد صمت مطبق في قاعة البريد. فاطمة لم تبكِ. نظرت إلى القفاز الأحمر، ثم إلى اليد اليمنى المرتعشة التي كانت تحمل ورقة إيما. ضمت القفاز إلى صدرها بقوة، كأنه قطعة لحم انتُزعت من روحها.
أدركت فاطمة حينها أن الرسالة قد وصلت، كاملة غير منقوصة، في هذا القفاز الذي يفتقد شريكه، وفي هذه الكلمات القليلة التي حملت رائحة ابنها، وذاكرة يده التي فقدت قدرتها على الإمساك بالقلم، لكنها لم تفقد قدرتها على العطاء الأخير.
في الخميس التالي، جاءت فاطمة إلى البريد كعادتها، في نفس الموعد ونفس الثوب. دخلت، سلمت على الموظف بابتسامة أعذب من ذي قبل. هذه المرة، لم تسأل عن جديد، بل ذهبت مباشرة إلى مقعدها الخشبي. أخرجت القفاز الأحمر، ووضعته برفق بجوارها.
ثم أخرجت من حقيبتها البالية، “إبرة حياكة” رفيعة و”خيطاً صوفياً” أحمر باهتاً، واشرأبت في نسيج القفاز المتبقي. وبدأت تحيك… تحيك القفاز الثاني.
لم تعد فاطمة تنتظر رسالة تصل إليها. الآن، هي من تحيك الرسالة، وترسلها كل خميس، في صمت، إلى روح ابنها البعيد، بخيوط من صبرها الذي لا ينفد، وبأمل لا يموت، وبيديها اللتين ورثتا فن الحياكة عن أمهما، وكأنها تقول: “لن تذهب أحلامك سدى يا ولدي، سأكملها لك.”
ومنذ ذلك اليوم، صار “الخميس” بالنسبة للموظفين في البريد، هو يوم رؤية أم الخميس وهي تحيك بهدوء، كأنها تنسج خيوط الزمن، وتضم طرفي الغياب والحضور معاً. كانت قصتها، قصة كل أم زرعت وغابت الثمرة، لكنها لم تكف عن سقي الجذور بالحب.



