آراء و تدوينات

دقائق معدودة

مريم العبودي

قصة قصيرة:

  أسرع سعيد إلى مكتبه، وأخذ يقلب الأوراق بحثًا عن أوراق بعينها يريدها قبل وصول رجال المباحث؛ فهو يعلم يقينًا أن إبرازها يعني السجن المؤبد له إن لم يكن الإعدام.  كانت حياته خلال الخمس سنين الماضية أقرب ما تكون لحياة المنافقين الذين يظهرون الصلاح والتقى والاستقامة، ولكنهم في الخفاء يمارسون الكذب والتدليس والتزييف.

كان عقله يعمل بسرعة هائلة بشأن وضعه كيف سيكون لو افتضح أمره. كيف سيواجه أبيه وعائلته الأقربين والأبعدين، وكيف سيواجه أصدقاءه بل كيف سيواجه أعداءه وكارهيه. ثم ظهرت في عقله صورة زوجته! هذه لوحدها كارثة.

لطالما حقّرها، وقلّل من شأن أهلها واصفًا إياهم بالبهائم التي ترتع في ملكوت الله، ولا تأبه لشيء إلا لملذاتها بينما هو الكامل المهموم بشئون الأمة ومستقبلها، والآن وقد جمع حوالي نصف مجموعات الأوراق خطرت على ذهنه فكرة؛ ليكسب الوقت. فسيبدأ بإحراقها خوفًا من مداهمته بالجرم الملموس.

أشعل النار ببعضها في سلة المهملات المعدنية، وعيناه تمر عرضًا على محتواها. كانت تحوي خطط عمل الخلية التي يعمل بها وبيانات مئات الأسماء والأرقام والعناوين لأولئك المتعاونين معه، وقد قسمهم إلى مجموعات، وأسند إليهم مهامًا محددة. أسماء رجال ونساء في جهات تعمل في قطاعات الدولة وفي القطاع الخاص. كان يحرقها ويبدو عليه الثقة والطمأنينة؛ فلن يجد أحدٌ ما يدينونه به. كما بدأ بحرق مجموعة كبيرة من الأوراق فيها توزيعات الأموال لكل من تم شراء ذمته؛ ليبث سمومه في وسائل التواصل الاجتماعي.

كانت مهمة هؤلاء مكشوفة جدًا لمن لديه الوعي، ولكنهم كانوا مؤثرين جدًا على العامة الذين يجهلون خبث السياسة. كان هو يقود الخائنين، ويدفع لهم أموالًا تنتفش لها أنفسهم الدنيئة. كان يحتقرهم، ويتخيل وضعهم وأوضاع من يحبون، وهم يتجرعون سوء المنقلب عندما تنجح الخطة الكبرى؛ لتحقيق الفوضى في البلد.

مرت دقائق التجميع والحرق، وهو يعمل في أجزائها. مثلت أمامه ذكرى زوجته التي يخفي عنها كل نشاطه. كان عنيفًا معها ينتقصها في كل شيء؛ ليحطم روحها وهذا ما أراده فقد تركت الحديث معه بل حتى إنها استسلمت فما عادت تدافع عن آرائها. إن فكرها يزعجه فهي تمثل المستسلمين. كان في أحيان قليلة يفكر في كلامها! هل ممكن أن تكون على حق؟ قد نعتته مرة بالمحبط الكاره للناجحين. وقتها رأى نفسه مبخوس الحق وغير مقدر. صحيح أنه حاول مرارًا أن يكون ضمن اللامعين، ولكنه فشل على مدى سنوات، ولم يزده فشله إلا حقدًا على كل من حوله. فكر وهو يدير عينيه في مكتبه المنكوش، وردد إما أن أكون مع النخبة، وإما لا يكون أحد.

  فجأة دخلت زوجته؛ فانتفض فزعًا وغيّر سريعًا قسمات وجهه التي قد تنبؤها بما يفكر به. بررت دخولها المفاجئ أنها خشيت من وجود حريق في المكتب قد يمتد إلى البيت كله، وسألته ماذا أراد أن يخفي؟ فزجرها وسخر من عقلها قائلًا: لن تفهمي أبدًا، والأفضل لك البقاء مع القطيع.

هزت كتفيها، وهي تستدير؛ لتخرج رامية لكلمات تجمد لها دمه في عروقه:

سيأتي الآن من يأخذك أنت إلى قطيعك؛ فقد صورتُ كل قصاصة ورق في هذه الغرفة، وأرسلتها لمن يهمه الأمر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com