صفاء الأحمد: “المنسف” سيد سُفرتنا والقصة بريق دائم ومرآة لالتقاط الجواهر

حوار – مريم الحسن:
القاصة (صفاء الأحمد) من الأردن، ضيفة حوارنا الرمضاني الليلة، وهو الحوار الذي نقترب فيه من حياة وفكر ضيوفنا عبر أكثر من نافذة، نقلب فيها أوراقهم، وننصت لتجاربهم، ونجعل من أيام وليالي الشهر الفضيل مرتكزًا لبعث الذكريات، المتصلة بفن القصة القصيرة …..
هذا الحوار يتم بالتشارك مع “ملتقى القصة القصيرة الإلكتروني”.
ماهي قصتك مع الأساطير، والقصص الشعبية الرمضانية في منطقتك، وكيف كتبت عنها؟
أنا من محافظة عجلون إحدى المناطق الجبلية المتميزة في شمال الأردن، تتسم بغطائها النباتي الكثيف وكثرة غاباتها.
أكثر ما قد يخيفك أن تستمع لصوت (الواوي) أو صفير الرياح الّتي تعبر من بين الأشجار.
اعتادت جدتي – والدة أبي – أن تكون الراوية المركزية للحكايات الشعبية، إذ كانت تقصّ علينا قصصًا ذات طابع أسطوري مستغلة طبيعة المكان، من بينها حكايات أبو رجل مسلوخة والمسوخ التي تمتلك خصائص حيوانية، كالأقدام الماعزية.
كانت هذه السرديات أداة تربوية غير مباشرة، تهدف إلى إثارة الخوف في نفوسنا مما يدفعنا إلى الامتثال للنوم بعد يوم حافل بالمشاكسة والمرح.
في غياب الجدة، كنتُ أضطلع بدور الراوي، محوِّلة ليالي الجمعة إلى مساحة ارتجالية لحكايات ينتظرها أطفال العائلة بشغف.
ومع كل أسبوع، كنت أجد نفسي وقد نسيت الحبكة السابقة، فأشرع في ابتكار حكاية جديدة، تاركة خلفي إرثًا من القصص غير المكتملة، تلك التي تبدو خامدة في الذاكرة الآن، لكنها قد تستيقظ يومًا ما، مطالبة بأن يُعاد سردها أو تُستكمل نهاياتها المفقودة.
رمضان محفز للكتابة، هل من (ق ق ج) لك عن أجواء الصيام؟
للأسف لا يوجد.
ثمة مواقف “غير متوقعة” صادفت مسيرة صيامك، فيها عبرة أو طرفة، هل تشاركنا إياها؟
في الحقيقة هناك أمورًا كثيرة تتعلق بالصيام أثرت في تكوين شخصيتي سأذكر أحدها. شرعتُ في الصيام في سنّ السادسة، محمولة ببراءة الإدراك الطفولي الذي يخلط بين الظاهر والجوهر.
كنتُ أتوهم أن ابتلاع الريق يفضي إلى إفساد الصوم، فظللتُ أحترز منه بحذر مبالغ فيه، حتى سألتُ أختي الكبرى ذات يوم، فواجهتني بضحكة صامتة دون إجابة، تاركةً لي مهمة الوصول إلى الحقيقة عبر الاستنتاج الشخصي.
في سنوات التكوين الأولى، تتخذ المخاوف الطفولية طابعًا وجوديًا، إذ يغدو القلق من التفاصيل الصغيرة همًّا عظيمًا حين يُقابل بالتجاهل أو الاستهانة.
لم يكن السؤال عن ابتلاع الريق مجرد استفسار عابر، بل كان تمثيلًا ضمنيًا لاحتياج الطفل إلى الطمأنينة، ذلك الاحتياج الذي يصير أشد وطأة حين لا يؤخذ على محمل الجد.
ماهي تجربتك مع قصص الفانتازيا كتابة؟
أجد في أدب الفنتازيا متنفّسًا إبداعيًا، لكنه لا يستهويني بمعزل عن الواقع، بل أفضّله حين يتّخذ شكل مزيج متقن من الغرائبية والواقعية، حيث تمتزج العناصر العجائبية بالمعطيات الحياتية المألوفة، فيخلق هذا التداخل فضاءً سرديًا مشحونًا بالدلالات العميقة.
لا أبحث في الفنتازيا عن الهروب من الواقع، بل عن إعادة قراءته من زوايا أكثر اتساعًا، حيث يصبح المستحيل وسيلة للتعمّق في النفس البشرية.
انطلاقًا من هذا التصوّر، تبنّيت هذه التقنية السردية في بعض قصص مجموعتي الأولى “امرأة قضمت لبّ المدينة”.
إذ سعيت إلى خلق عوالم تتجاوز المألوف، دون أن تنفصل عنه تمامًا، بل تظلّ مشدودة إليه بخيط نفسي خفي.
الغرائبية، في نظري، ليست مجرّد عنصر جمالي، بل أداة لاستكشاف أعماق الإنسان، حيث يتجلّى اللاوعي والهواجس والرغبات المكبوتة في مشاهد تنتمي إلى العجائبي بقدر ما تعكس جوهر الحقيقة.
في عالمك الشخصي، كيف تمضي تعاملاتك مع الأسرة والوقت وأصناف الطعام في رمضان؟
رمضان مساحة من الصفاء الروحي، وهو بالنسبة لي أجمل شهور العام، وأخصّصه بالكامل للعائلة. يحمل إعداد الطعام فيه طابعًا خاصًا، فلكل بلد هويته التي تنعكس في مائدته الرمضانية.
غالبًا يتصدر المنسف الأردني السفرة في أول يوم، بينما تظل عصائر التمر الهندي والكركديه وشوربة العدس والمخللات جزءًا من طقس الإفطار، وكأنها ثوابت لا يكتمل رمضان دونها.
بعد صلاة التراويح، يحين وقت اجتماع العائلة على فنجان القهوة العربية المُرّة وصحن القطايف، حيث تمتزج النكهات بالدفء ويصبح الطعام وسيلة لاستحضار الذكريات أكثر منه مجرد وجبة بعد يوم طويل من الصيام. يوجد دقة قلب فريدة لا تخرج إلا في رمضان.
تواجه القصة القصيرة تحديات وجودية، كيف ترى هذا التحدي، وما واجب كتابها لتعزيز مكانتها؟
برأيي القصة القصيرة تمتلك سرّ البقاء في ذاتها، ربما لأنها تنتمي إلى طبيعة الزمن الحديث، حيث يُختزل الوجود في لحظات خاطفة، ويُصبح الإيجاز ضرورة لا ترفًا.
القصة القصيرة ليست مجرد شكل أدبي، إنّما مرآة تلتقط الجوهر العابر للحياة وتكثّفه، وتترك أثره في النفس دون إطالة.
لكن للأسف مكانتها مهددة لا لقصور فيها بل لأن العالم يميل إلى الروايات الطويلة وكأن الامتداد هو الضامن الوحيد للعمق.
لا إجابة محددة لدي لكيفية إحيائها، لكن ربما يكمن السرّ في التجريب وفي خلخلة السرد المألوف والبحث عن أفق جديد يجعلها أكثر انسيابًا في وجدان القارئ.
ليس مطلوبًا أن تدافع عن وجودها بل أن تعيد تعريفه وتتحوّل من نصّ مقروء إلى تجربة حسية ومن حكاية موجزة إلى لحظة تُمسك بالقارئ فلا تفلته.
يجب مواكبة وسائل النشر، من مجلات إلكترونية وكتب صوتية ومنصات تفاعلية إلى أي فضاء يمكن أن يعيد تشكيل علاقتنا بالنصوص ويخلق قارئًا جديدًا لا يبحث عن الاسترسال بل عن لحظة مكثّفة تصيبه في الصميم.
والأهم من ذلك كلّه، أن يدرك كتّاب القصة القصيرة أنها ليست فنًا هامشيًا، بل كيان مستقل لا يحتاج إلى تبرير وجوده وأن القصة لا تبقى باستعطاف القرّاء، بل بأن تكون ضرورة وأن تكون دهشة لا تفقد بريقها مهما تقلّب الزمن.