لحظة نادرة عشتها في المكتبة

مرفت أبو العينين
في عالمنا المعاصر الذي يكتظ بالتكنولوجيا والمعلومات المتدفقة، تظل المكتبات هي المكان الذي يربطنا بجذورنا الثقافية وبالبذور الأولى للمعرفة. وجودنا كقراء شغوفين في المكان الأول لولادتنا هو أمر يتوقف على إبقائنا أحياء، واندفاعنا في عمق الكلمات هو اللحظة التي نلتقي فيها كقراء وكُتّاب. ففي المكتبة، كل شيء يبدو ممكنًا. الكتب هنا ليست مجرد أوراق مطوية، بل هي مدخل إلى عوالم جديدة تتجدد مع كل قراءة. وفي خضم الكلمات، دائمًا ما كان يربطنا كتاب.
لكن، لا شك أن الأمر يتغير عندما نلتقي بالمكتبة لأول مرة في زيارة مفاجئة. قبل أيام قليلة، زرت إحدى مكتبات الكويت، وكان الوقت يداهمني. إما أن يسبقني أو أسبقه، وفازت همتي في النهاية. كانت تلك لحظة من اللحظات النادرة التي نختبر فيها الاندفاع والرغبة في اكتشاف المجهول. مثل بيت عربي كريم، شرعت المكتبة في استقبالي، وكل زاوية فيها كانت تعبر عن نوع من الترحاب والضيافة.
داخل المكتبة، وجدت نفسي أمام رفوف مليئة بالكتب، تتنوع وتختلف في أشكالها وألوانها. مزيج من عبق الماضي، ارتبط بحكاية الحاضر. امتد البعض منها على الأرض كحدائق خضراء، بينما كانت الأخرى مهيأة كعروسٍ في انتظار الاحتفال. تلك الكتب لم تكن مجرد أدوات معرفة، بل كانت تحمل معها ذكريات وتجارب لا تنتهي.
وكان الاستقبال غير عادي. موظف المكتبة، الذي بدت عليه علامات الحيرة والدهشة، لم يكن يعرف أنني لم أكن أبحث عن مجرد كتاب، بل كنت أبحث عن تجربة. لم تكن الخطة أن أقتني كتابًا لبثينة العيسى، لكن فتنة مكتبتها التي احتوت تفاصيل هذا المكان سلبت لبّ فؤادي! فمكتبتها كانت تمثل أكثر من مجرد رفوف مملوءة بالكتب؛ كانت تجسد الفكرة نفسها، فكرة أن الكتاب هو النافذة التي تطل منها على العالم، وبهذا المعنى كانت مكتبتها هي الواجهة التي تفتح عيني على كل شيء جديد.
السؤال الذي دار في ذهني كان، كيف يمكن للأموات أن يلتقوا بالأحياء في هذا المكان؟ أليس الكتاب هو الهمس المستمر بين الأجيال؟ أليس هو الرابط الذي يمر من يد إلى يد ومن عقل إلى عقل؟ من استطاع جمع كل الاختلافات في حالة من التعايش، وخلق انسجامًا جماليًا بين الماضي والحاضر؟ وهل يمكن للمكتبة أن تكون مكانًا يعيش فيه المرء كل هذه الأحاسيس في لحظة واحدة؟
في مكان آخر من المكتبة، كان هناك شيء مختلف عن باقي الأماكن. المكان لم يكن مجرد قاعات مليئة بالكتب، بل كان هو نفسه هوية، وطنًا صغيرًا، ينتظرك ليحتويك. المكتبة بذلك المعنى ليست مجرد مسكن للأشياء المادية، بل هي مسكن للروح، مكان يعبر عن الانتماء والتواصل المستمر مع من سبقونا. هي المكان الذي يتواصل فيه الحاضر مع الماضي ويستشرف المستقبل.
وكانت كل تلك الكتب في المكتبة، رغم تباينها في الحجم والمحتوى، تشكل تكوينًا واحدًا. تكوين لا يمكن أن يتم بمعزل عن قارئه، وكتابة بارعة لا تقتصر على سطر واحد. كما أن كل كتاب يحمل بذرة لوعي فطري يتعلق بالقراءة نفسها. الكتاب هو المفتاح الذي يفتح لنا الأبواب المغلقة في عقولنا، وهو الصورة التي تتشكل فيها هويتنا، وهويتنا الأدبية والثقافية.
في النهاية، كانت تلك الزيارة أكثر من مجرد زيارة إلى مكتبة. كانت لحظة تحول، لحظة تهزّ كل أبعاد التفكير والتأمل. وكم هو ساحرٌ الكتاب، وكيف أن تلك اللحظات البسيطة في المكتبة تصبح ذكريات مشبعة بالأمل والتحدي، وتثبت في الذهن بأننا بحاجة إلى تلك الأماكن، إلى تلك اللحظات، كي نعيد بناء أنفسنا.
ثمّة أماكنٌ، إذا ذهبنا إليها فارغين، نألفها ونعود منها مكتظين ومأسورين بالأشياء والمعاني. وقد حدث معي ذلك في مكتبة تكوين في الكويت.
……….
@mervat_abu_alenain