مقالات

بائعة المناديل التي كانت تُغنّي

هيفاء علي نورالدين 

لم تكن تشبه أحدًا من أولئك الذين يملؤون أرصفة المدينة.

كانت تمضي بخطواتٍ وادعة، كأنها تخشى أن توقظ في الطريق أحزانه النائمة.

تحمل علبة مناديل صغيرة، وتغنّي… لا طلبًا للعطف، بل كأنها تُخاطب قلبًا غائبًا لا يسمعها سواها.

كان المارّة يعرفونها باسمٍ أطلقوه عليها على سبيل الدهشة:

“المغنّية الصامتة”، لأنها كانت تغنّي دون أن ترفع صوتها، ودون أن تمدّ يدها لأحد.

تجلس عند الإشارة، تتابع العيون المرهقة، ثم تبتسم وتبدأ مقطعًا من أغنيةٍ قديمة لا يعرف أحد من أين جاءت.

وفي صوتها حنينٌ غريب، كأن المدينة نفسها تتنفس من خلاله.

كنتُ أراها كل صباحٍ من المقهى الصغير القابع على ناصية الطريق

مقهى متعبٌ كأنه استراح هناك منذ عقودٍ ينتظر من يذكره.

كنتُ أحاول الكتابة عن الناس وعن الحياة،

لكن منذ أن سمعتُ صوتها أول مرة، شعرتُ أن كل ما أكتبه لا يستحق الورق.

كان في نغمتها شيء من الطفولة الضائعة، وشيء من صلاةٍ نسيها المؤمنون على أعتاب الهمّ.

سألتُ صاحب المقهى عنها، فقال:

> “اسمها سَنا… أو هكذا قيل. جاءت منذ عامين، تبيع المناديل لتعيش هي وأمها المريضة. ثم ماتت الأم، وبقيت سَنا تغنّي وكأنها ما زالت تسمعها من خلف الغياب.”

منذ ذلك اليوم، صرت أراقبها كما يُراقب المرء حلمًا يخشى أن يستيقظ منه.

كانت حين يهبّ البرد، تلفّ وشاحًا رماديًا حول عنقها النحيل، وتغنّي بابتسامةٍ تذيب قسوة الإسفلت.

لم تكن جميلة بمعايير الوجوه، لكنها كانت وجهًا يشبه الرحمة.

وكان في ضحكتها شيءٌ من صباحٍ لم يُكتَب له أن يكتمل.

ذات يومٍ اقتربتُ منها، وقدّمتُ لها كوب قهوةٍ ساخن.

رفعت رأسها نحوي، بعينين فيهما صفاءٌ لا يليق بشوارعنا، وقالت بهدوء:

> “أشرب القهوة حين أشتاق إلى أمّي… واليوم أشتاق كثيرًا.”

جلستُ بقربها أستمع،

لم يكن غناؤها غناءً حقًا، بل همسًا يختلط بأنين الريح، كأنها تُحدّث السماء لا الناس.

أيامٌ مضت، وصارت سَنا جزءًا من طقوسي الصباحية.

لم أعد أذهب إلى المقهى لأكتب، بل لأسمعها تغنّي.

كنت أراها تتقاسم كسرة خبزٍ مع قطةٍ رمادية، وتقول مبتسمة:

> “نحن الاثنتان لا نملك سوى الصوت، وهو لا يُكلّف أحدًا شيئًا.”

وفي مساءٍ ممطر، لم تأتِ سَنا.

بدا الرصيف أكثر وحدة، وكأن الضوء نفسه رفض أن يهبط عليه.

سألتُ عنها صاحب المقهى، فخفض رأسه قائلًا:

> “صدمتها سيارة البارحة، كانت تغنّي لحظة الحادث.”

خرجتُ أبحث عنها، فلم أجد إلا علبة المناديل مقلوبة عند الإشارة،

والمطر يغسل ما تبقّى من أغنيتها.

كأن السماء تبكي بالنيابة عنها.

جلستُ هناك طويلًا، أترقّب عودتها من وراء الغيم.

لكن المدينة صمتت… صمتًا يشبه الاعتذار.

وبعد أسابيع، سمعتُ في الصباح صوتًا طفوليًا خافتًا.

كان اللحن نفسه، لكنه هذه المرة يخرج من حنجرةٍ صغيرة.

رفعتُ بصري، فرأيتُ فتاةً تبيع المناديل وتغنّي…

وحين اقتربتُ، لمحتُ في عينيها وميض سَنا.

ابتسمت لي وقالت:

> “خالتي كانت تغنّي لي دائمًا وتقول إن الغناء يطرد الحزن، فهل أُغنّي لك؟”

وضعتُ في يدها عملةً صغيرة، وقلتُ هامسًا:

> “غنّي يا صغيرتي… فربما تسمعك السماء.”

ثم مضيتُ، والمطر خلفي يغنّي لحنًا قديمًا…

لحنًا يشبه سَنا، التي غابت عن الشارع، وبقي صوتها يعيش فيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com