مقالات

البطولة في تفاصيل الحياة اليومية

بقلم : ريما آل كلزلي

هناك ما يتعدى كونه مواقف عظيمة. ببساطة إنها التفاصيل الصغيرة التي نعيشها يوميًا. عندما يمر يومك وأنت تواجه تحدياتك بتوازن واحترافية، فأنت بطل. أن تستيقظ لتواجه العالم رغم التعب، أن تتعامل مع العمل أو الدراسة أو العلاقات بتفانٍ وصبر، أن تتخذ قرارات واعية رغم الضغوط، كلها مواقف بطولية، لكنها قد لا تبدو كذلك في أعين الآخرين.
أخيرًا، أن تحافظ على مستوى معين من أخلاقك وسط ضغوط الحياة وصخبها هو في حد ذاته تحدٍّ آخر، لبطولة فاخرة.

في رؤية نيتشه، الأخلاق ليست كيانًا مقدسًا أو معيارًا مطلقًا، بل هي انعكاس للذوق الشخصي والمجتمعي. في عبارته الشهيرة: “إذا قتلتَ صرصورًا فأنت بطل، وإذا قتلتَ فراشةً فأنت شرير.”
يوضح نيتشه هشاشة الأخلاق وقابليتها للتأثر بالتصورات الجمالية. الفراشة تُمنح التعاطف لأنها جميلة ورقيقة، بينما يُدان الصرصور لأنه قبيح ومقزز. بينما فعل القتل هو نفسه، لا يُقيَّم بناءً على جوهره، بل بناءً على صورة الضحية في أعيننا.

هنا تنكشف محدودية معاييرنا الأخلاقية:
– هل جمال الكائن يمنحه قيمة أخلاقية أعلى؟
– وهل دمامة الكائن تجرده من حقه في الحياة؟
– وكيف يعكس هذا معاييرنا في تقبل حياتنا اليومية، بين جمالها وبشاعتها؟

هذه الفكرة تكشف عن علاقة الأخلاق بالذوق الشخصي وعلاقة الإنسان بحياته الواقعية وظروفه اليومية. فالضمير، الذي يُفترض أنه بوصلتنا الأخلاقية، قد يكون أحيانًا تابعًا لمعايير شكلية لا علاقة لها بالعدل.

– نُصان الفراشة لأنها تجذب مشاعرنا بجمالها، لا لأنها تملك حقًا أكبر في الحياة.
– ويُسحق الصرصور لأنه يثير اشمئزازنا، لا لأنه يستحق الموت.
لكن ماذا لو انعكس هذا التفكير على رؤيتنا لحياتنا؟

إن تعاملنا مع الواقع، سواء بجماله أو بشاعته، هو انعكاس مباشر لفهمنا الأخلاقي. عندما ندرك أن الحياة ليست جميلة دائمًا، لكنها تستحق أن تُعاش بكل تفاصيلها، نبدأ في رؤية الواقع كما هو، لا كما نرغب أن يكون.

كيف ينعكس تفكيرنا الأخلاقي على واقعنا؟
واقعنا هو مزيج من الجمال والبشاعة، الفراشات والصرصور. إذا اخترنا أن ننظر فقط إلى ما يثير إعجابنا، سنفقد القدرة على التعامل مع ما يزعجنا. البطولة الحقيقية هي في التوازن بين تقبل بشاعات الحياة والعمل على تحسينها، وبين الاستمتاع بجمالها دون إغفال تحدياتها.

– البشاعة في حياتنا: هي ظروفنا الصعبة، أخطاؤنا، التحديات التي تهدد توازننا. التعامل معها يتطلب صبرًا ووعيًا، لا إنكارًا أو استسلامًا.
– *الجمال في حياتنا*:

هو اللحظات البسيطة التي تمنحنا شعورًا بالإنجاز، العلاقات التي نتشاركها، والأحلام التي نحققها رغم الصعوبات.

وفقًا لنيتشه، الأخلاق ليست حقائق ثابتة أو نورًا ينير درب الإنسان، بل هي نتاج للصراعات والتحولات. ما نسميه اليوم “فضيلة” هو انتصار لرؤية ما، سيطرت على الآخرين وفرضت نفسها كمعيار.

إذا كانت الأخلاق مجرد انعكاس لجمالية الفعل وضحيته، فإن البطولة في الحياة اليومية تصبح أكثر صدقًا. أن تكون بطلًا يعني أن تعيش يومك بوعي، أن تختار الاحترافية في التعامل مع مهامك، وأن تتخذ قرارات لا بناءً على هوى أو ذوق، بل بناءً على قيم العدالة والإنصاف.

البطولة ليست شيئًا خارقًا. عندما تخرج من يومك متوازنًا، وقد تعاملت مع تحدياتك اليومية بحكمة واتزان، فأنت بطل. أما الأخلاق، فهي ليست معيارًا مطلقًا للخير والشر، بل انعكاسٌ لمعاييرنا الجمالية والثقافية، ولطريقتنا في تقبل واقعنا بجماله وبشاعته.

بين نيتشه وفلسفة الحياة اليومية، نكتشف أن البطولة والأخلاق ليستا ما يبدو عليهما دائمًا، بل هما انعكاس لاختياراتنا ووعينا تجاه حياتنا الواقعية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com