
ريما آل كلزلي
الحرية في القرآن هي منظومة متكاملة من القيم تربط بين الفرد والمجتمع، وبين الإنسان وخالقه، وبين الحقوق والواجبات. وحالة من التوازن الإلهي التي تجعل الإنسان قادرًا على أن يحيا بكرامة، دون أن يتعدى على كرامة الآخرين أو يسلبهم حقوقهم. جاء ذكر معاني الحرية في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، حيث تم تفصيل حدودها وضوابطها، وكيف يمكن للإنسان أن يتحرر من قيود النفس والآخرين دون أن يخل بنظام الحياة.
القرآن الكريم يشير إلى أن الحرية تمثل جزءًا من التكليف الإلهي، فهي تمكين للفرد ليقوم بدوره في الأرض وفقًا للمنظومة الإلهية. يقول الله تعالى: “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا” (الشمس: 7-8). هنا يتضح أن الله منح النفس البشرية حرية الاختيار بين الخير والشر، لكنه وضع لهذه الحرية حدودًا تحافظ على التوازن بين الفرد والمجتمع.
حين يمارس الإنسان التسلط أو الاضطهاد على الآخرين، فإنه بذلك يعطل قوانين السماء، كون التسلط يتناقض مع مفهوم التسخير الإلهي. فالله جعل الأرض والسماء في خدمة الإنسان، وفتح له أبواب الرزق والعطاء، كما قال تعالى: “وَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ”(الأنعام: 44). وعندما يعطل الإنسان حرية الآخرين، فإنه يضع نفسه في مواجهة مع هذه القوانين الإلهية، مما يؤدي إلى ضيق الأرزاق وتعثر الحياة.
في العلاقات الإنسانية، مثل علاقة الزوج بزوجته أو الأب بأبنائه، تظهر معاني الحرية بوضوح. فالزواج في الإسلام هو ميثاق قائم على المودة والرحمة، كما قال الله تعالى: “وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً”(الروم: 21). لكن عندما يتحول هذا الميثاق إلى ساحة للتسلط والاضطهاد، فإن ذلك يسلب الطرف الآخر حريته، ويعطل الطاقة الإيجابية التي خلقها الله في هذه العلاقة.
على سبيل المثال، عندما يمارس الزوج التسلط على زوجته، فإنه لا ينتهك فقط حريتها، بل يعطل دورها كإنسان فاعل في الأسرة والمجتمع. والعكس صحيح، عندما تسقط الزوجة مخاوفها وشكوكها على زوجها، فإنها تقيده وتحد من حريته. هذه الديناميكيات السلبية تؤدي إلى اختلال التوازن الإلهي في العلاقة، مما ينعكس سلبًا على الحياة بأكملها.
الحرية الحقيقية التي يدعو إليها القرآن الكريم تتجلى في العطاء النابع من القلب، عطاء يتسم بالحب والإيثار، دون منّة أو شروط. هذا العطاء يعكس روح الحرية الداخلية التي تجعل الإنسان قادرًا على تجاوز أنانيته ورغباته الشخصية، ليمنح الآخرين فرصة للنمو والتمكين.
عندما يقدم الإنسان شيئًا للآخرين دون أن يتبع ذلك بتقليل من شأنهم أو ممارسة الضغط عليهم، فإنه يساهم في تعزيز مكانتهم وإطلاق طاقاتهم، بدلًا من تعطيلها أو كبحها. هذا السلوك الإيثاري هو جوهر الحرية كما يراها القرآن، حيث يرتبط بالارتقاء الروحي والسمو الأخلاقي.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله تعالى: “وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ” (الحشر: 9). فالآية تعكس صورة ناصعة للإيثار، عندما يفضل الإنسان مصلحة الآخرين على نفسه، حتى في أشد حالات احتياجه. هذا الإيثار هو تعبير عن الحرية الحقيقية، لأنها تنبع من قرار داخلي مستقل، هدفه نشر الخير والتمكين للآخرين.
العطاء بهذه الروح هو قيمة أخلاقية وروحية تُحرك قوانين السماء والأرض. فالله سبحانه وتعالى يبارك في حياة من يعطي بإخلاص، ويفتح له أبواب الرزق والبركة، لأنه يعمل وفقًا لقيم الرحمة والتسخير التي أرادها الله للبشرية.
الحرية ليست مجرد تحرر من القيود، بل هي حالة من العطاء الواعي الذي يهدف إلى تمكين الآخرين، دون انتظار مقابل أو ممارسة ضغط. إنها دعوة لتجاوز الذات من أجل بناء عالم أكثر عدلًا ورحمة.
من المفاهيم المثيرة التي أشار إليها الباحث السعودي سلطان العثيم هو “كارما التعطيل”، وهو مفهوم يرتبط بالعواقب السلبية للتسلط وسلب حريات الآخرين. عندما يتصرف الإنسان بتسلط، سواء كأب متسلط على أبنائه أو كمدير متحكم في موظفيه، فإنه يغلق أبواب السماء أمام نفسه وأمام من حوله.
فالقرآن يشير إلى أن الرزق مرتبط بالسلوك الإنساني. يقول الله تعالى: “وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ”(الأعراف: 96). التسلط والتعطيل يعاكسان هذه القوانين، فيُغلق الرزق وتتقلص الفرص، لأن الإنسان يتصرف بشكل يتناقض مع التمكين الإلهي.
الأب المتسلط والأم المتسلطة يمثلان نموذجًا لتعطيل الحرية على مستوى الأسرة. عندما يمارس الأبوان الضغط على أبنائهم، أو يقللون من شأنهم، فإنهم بذلك يحدون من إمكانياتهم ويضعون العراقيل أمامهم. التربية في الإسلام تقوم على التمكين، وليس التعطيل. يقول الله تعالى: “قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا”(التحريم: 6)، أي أن دور الوالدين هو التوجيه بالحكمة، وليس التسلط.
على الوالدين أن يدركا أن حبهم لأولادهم يظهر في دعمهم وتمكينهم، وليس في السيطرة عليهم أو فرض شروط قاسية عليهم. العطاء هنا يجب أن يكون خالصًا لله، دون منة أو شروط، لأن الأبناء أمانة، وليسوا ممتلكات.
الحرية في القرآن الكريم هي رسالة متكاملة تدعو الإنسان إلى أن يكون حرًا بإرادته، وفي الوقت نفسه مسؤولًا عن حريته. الحرية تقوم على التوازن بين الحقوق والواجبات، وبين الفرد والمجتمع.
عندما يدرك الإنسان أن التسلط يعطل قوانين السماء، فإنه سيختار التمكين والعطاء دون شروط. فالحرية ليست مجرد حق، بل هي مسؤولية أمام الله والآخرين. ومن خلال احترام حريات الآخرين، يفتح الإنسان أبواب السماء والأرض، ليعيش حياة مليئة بالرزق والبركة.