الصف الخامس “ب”

هيفاء علي نورالدين
قصة قصيرة
كان صباح الإثنين باردًا، والسماء رمادية كأنها صفحة دفترٍ نُسيت فوقها نقطة حبرٍ سوداء.
كانت المدرسة القديمة تمتدّ على الهضبة الصغيرة، مبناها العتيق بلون الرمل، وبابها الحديديّ يصدر صريرًا يشبه تنهيدة من تعب السنين.
عند السابعة تمامًا، بدأ التلاميذ يتقاطرون إلى الفناء.
ضحكات، شجارات صغيرة، رائحة الطباشير الممزوجة بتراب الصباح.
وفي الصف الخامس (ب) تحديدًا، كانت الحياة تضجّ كما لو أن العالم كلّه محشور داخل أربعة جدران وسبعة وعشرين طفلاً.
المعلمة “سعاد” دخلت الفصل بخطواتٍ هادئة، تجرّ في عينيها تعبًا قديمًا ووقارًا يجعل الصغار يصمتون دون أن تطلب.
قالت بصوتها الخافت الذي يشبه المطر حين يبدأ:
— صباح الخير يا أولادي.
ردّوا بصوتٍ واحدٍ، غير منتظم، لكنه مليء بالحياة:
— صباح الخير يا أبلة سعاد.
كان “ربيع” يجلس في المقعد الأخير.
وجهه أسمر صغير، عيناه تشعّان بذكاءٍ حزين، ودفتره نصف ممتلئ بالحبر ونصفه الآخر بالفراغ.
لم يكن يملك قلمًا دائمًا، فيستعير من “نادر”، ابن التاجر الثري الذي كان يجلس في المقعد الأول، أمام النافذة المطلة على شجرة السرو.
ذلك اليوم، طلبت المعلمة من الجميع أن يكتبوا موضوعًا إنشائيًا بعنوان “حين أكبر ماذا سأصبح؟”
أمسك ربيع القلم الذي أعارَه نادر له، وحدّق في الورقة البيضاء.
لم يكن يعرف بالضبط ما يريد أن يصبحه، لكنه كتب بخطٍ متعرّج:
“سأصبح معلّمًا مثل أبلة سعاد، لأنني أريد أن أجعل الأولاد لا يخافون من المدرسة.”
رفعت سعاد رأسها حين مرّت بين الطاولات، قرأت الجملة بخفة، وابتسمت.
كانت ابتسامة قصيرة، لكنها ظلت في قلب ربيع إلى الأبد.
في الفسحة، جلس الأولاد في الفناء يتقاسمون السندويشات.
كان ربيع يخرج كسرة خبزٍ من جيبه ويأكلها بصمت، بينما نادر يتحدث عن متجر أبيه الجديد، ومروان يقذف كرة من الورق نحو صديقته “ليلى” ويضحك.
ضحكاتهم كانت بريئة، لكن فيها نغمة حزينة لا يفهمها سوى من كبر يومًا في مدرسةٍ حكوميةٍ منسية.
مرت الأسابيع ، كانت المدرسة تُشبه حياةً صغيرة؛ فيها الغياب والحضور، العقاب والثواب، البكاء والفرح، وأحيانًا الحلم.
وفي نهاية الفصل الدراسي، قررت الإدارة إقامة مسابقة في الإلقاء.
تقدّم الجميع بخوفٍ أو حماس، لكن ربيع لم يُشارك.
وحين سألته سعاد، قال وهو ينظر إلى الأرض:
— صوتي ضعيف يا أبلة.
قالت له بهدوءٍ:
— الأصوات لا تُقاس بعلوّها، يا ربيع، بل بما تتركه بعد أن تصمت.
وفي يوم الحفل، وقفت سعاد تراقب من آخر الصف، والطلاب يتناوبون على المنصّة.
وحين نادوا اسم “ربيع عبد المقصود”، ساد الصمت.
صعد بخطواتٍ مترددة، وقرأ قصيدة كتبها بخطه المرتبك عن الأم والخبز والدفتر.
لم يكن صوته قويًا، لكنه كان صادقًا.
وبينما ضجّ الجميع بالتصفيق، كانت أبلة سعاد تمسح دمعةً صغيرة تخاف أن يراها أحد.
بعد عشرين عامًا، كان المطر يهطل على نفس المدرسة.
اللافتة صدئة، الجدار متآكل، والفصل الخامس (ب) صار غرفة للمخازن.
سيارة صغيرة توقفت عند الباب، ونزل منها رجل في منتصف الثلاثين، يحمل وردةً بيضاء في يده.
كان “ربيع” دخل بخطواتٍ بطيئة، كأنما يعود إلى زمنٍ لم يغادره.
سأل الحارس العجوز: أبلة سعاد… هل ما زالت تعمل هنا؟
أجابه الحارس:
تقاعدت من سنين، يا ابني، لكنها تزور المدرسة أحيانًا… تقول إن قلبها ما زال هنا.
وفي مساء اليوم نفسه، وقف ربيع أمام بيتٍ صغير في آخر الحي.
طرَق الباب بخفة، ففتحت له امرأة بشعرٍ فضّي ووجهٍ يعرفه قلبه قبل عينيه.
قالت له بابتسامةٍ متعبة: ربيع؟!
أجاب وهو يسلّمها الوردة:
تلميذك الذي ما زال يخاف أن يخطئ في النحو.
ضحكت، ثم دعته للدخول.
تحدثا طويلًا، عن الطفولة، وعن الصف الخامس (ب)، وعن الأحلام الصغيرة التي نجت من الفقر والبرد.
وحين خرج، كانت السماء قد انطفأت، لكن قلبه كان مضيئًا كما لو أن جملةً قديمة من درس القراءة اشتعلت فيه من جديد:
> “المعلمة لا تكتب بالحبر… بل بالذاكرة.”



