المصيدة الشفافة

نايف مهدي
قصة قصيرة
كلما آبَ من عمله المسائي وأدار مفتاحه الصدئ في قفل باب منزله، لفحته وحشةُ البيت الخالي الكئيب، وسرى في ظهره ما يشبه القشعريرة المثلجة. يتمهل قليلًا وراء الباب المفتوح، ويزيل لفافات المناديل التي اعتاد أن يحشو بها أذنيه هروبًا من أصوات أطفال الجيران التي تملأ سلالمَ العمارة بفرح لا نهائي ترافقًا مع دقات النجر وروائح الأطعمة الشهية وأحاديث آبائهم وأمهاتهم الودودة.
إنه يعاني قِصرًا في النظر، لذا كانت النظارات السميكة لا تفارق عينيه، ومع ذلك فقد استشرى الظلام في زوايا بيته وتباعدت الحيطان، كما لو أن أحدًا قد هدمها وأعاد بناءها على بعد مئات الأمتار. يلمح جيبه المنفوخ ويخرج منه ثلاثة أعواد من الحلوى، ويسجّيها طوليًا على رف التلفاز، أكيدٌ أنه قد ابتعاها لأطفاله، هو متأكدٌ من ذلك، ولكن هل اشتراها اليوم؟ أمس؟ أو قبل شهرين؟ ليس له علم بذلك. جيوبه الأخرى منتفخة كذلك ولكنه لا يجد الجرأة ليرى ما بداخلها.
قبل قليل، تزاحمت رسائل المعجبين في صفحته، يطلبون منه أن يكتب لهم قصيدةً غزلية تُلهب قلوبهم الخاملة وتخرجهم من فجاجة الواقع. إنه أداةٌ تفيد الجميع بلا شك ولا تستفيد هي من نفعها شيئًا. يستدرك: “قصيدة غزلية! لمن؟ ولماذا؟” إنَّ قلبه بئر مهدومة، ولو جسه الآن بأصابعه للدغته في اللحظة عقاربُ الخواء. يقترب ببطء من رفوف مكتبته الغاصة بأصناف الكتب، يراها تغوص مبتعدةً عنه في جوف الخزانة، كما لو أنه يمدُّ يدَه لها من على سطح بناية مقابلة، ثم إنه لا يريد خيالًا مُعزيًا، يريد عناقًا حارًا وقُبلةً شهوانيةً طويلةً تحط على فمه فتقشع عن وجهه هذا القناع البارد.
تظهر صورتها فجأةً على أحد الرفوف وهي واقفة بجانبه في حفل زفافهما بفستان مفتوح الصدر قد اتسق على قامتها الهيفاء كعمود من المرمر المُزخرف، يرتعد مخبئًا عينيه في دوامة الشرود، فقبل خمس عشرة سنة لا بد أن جمالها يبلغ الحد الذي سيردم الآن حلقَه الجاف برمال الحسرة الكبيرة.
لقد أحبته ولكنها لم تفهمه بينما هو فهمها وظن أنه يحبها، سنواتٍ طويلة وهو يمشي على حبلِ انفعالاتها بعصا توازنٍ مكسورة، بينما ذلك الحبل يتهرأ باطّراد. كان كلما يعود منتشيًا من أمسياته الشعرية، الحافلة بالنساء الحسناوات اللاتي كان يعرض عنهن بوجهه المنقوع في الخجل، وهن يقذفن له القبلات الطائرة، يغرق مباشرةً مع زوجته في شجار مسرحي يتسبب عادةً بإيقاظ الأطفال، وصفق الأبواب، وتبادل السباب واللعنات الحادة. ودَّ أن لو يلكم نفسه الآن أو ينهال عليها ضربًا بالقضبان الحديدية الثقيلة، إذ إنه قد فرّط في الكثير من الفرص الساخنة ونذر نفسه للرماد الميت.
يدور حول نفسه كعاصفة تافهة، فتلسع المشاهدُ خيالَه المهزوز بألسنة نارية، فيفتح النافذة بعنف على اتساعها، يجدُ الشارعَ يعوم في السكون المطلق، ويكتشف أن قطع المناديل قد عادت إلى أذنيه، ينزعها بحركة مضطربة، ويدلي برأسه سريعًا إلى الخارج متوحدًا مع ضجيجِ المركبات ونباحِ كلاب الليل.