تدوينات

قراءة تحليلية في قصيدة: “حكيم العُرف”

بقلم: محمد بن مسعود العُمري

القصيدة مهداة إلى الدكتور جمعان بن محنوس العُمري، من شاعرٍ آثر التواري عن الاسم، مكتفيًا بأن تنوب أبياته عنه في الإفصاح عن مكنون الود، وصدق الوفاء.

والواقع أنه في كل زمان، يظلّ لصاحب الرأي السديد مكانته، ولأهل الحكمة والعُرف منارات يُهتدى بها. ومن أولئك الذين حملوا مشعل التعليم والفكر والاعتدال، الدكتور جمعان بن محنوس العُمري، أحد القامات التعليمية السامقة، ممّن خدموا وطنهم في ميدان التعليم داخل المملكة وخارجها، حتى أُحيل إلى التقاعد بعد مسيرةٍ حافلةٍ بالعطاء والتأثير.

وإلى جانب مكانته التربوية، فإن الدكتور جمعان شاعرٌ متمكّن، وضليع في اللغة العربية وأسرارها، يجمع بين البيان والفكر، وتلتقي في شخصه الحكمةُ مع الحرف، والخبرةُ التربوية مع الذائقة الأدبية.

وفي هذه المقدمة، لا أنسى أن أشير – بامتنان لا يخبو – إلى أنني كنت ذات سنة من السنين أحد طلابه في المرحلة المتوسطة، وذلك ما بين عامي 1403 و1404هـ، حين بدأ تأثيره يتسلل إلى نفوسنا بأسلوبه التربوي، وهدوئه المهيب، وحكمته التي تتجاوز حدود الصف الدراسي.

لقد كان حاضرًا بحضوره، وأثره أسبق من صوته، وحكمته تظهر في موضعها، ومواقفه تُحترم عند الخلاف وتُذكر عند استدعاء الجميل.

ومن هذا التقدير، انطلقت هذه الأبيات التي لم تأتِ تزكية، بل وفاءً لرجلٍ شرُف الشعرُ بأن يُقال فيه.

رجلٌ يختار الظل على الأضواء، والعمق على البهرجة، في زمنٍ كثر فيه ضجيج القول وقلّ أثر الفعل.

توطئة:

جاءت هذه الأبيات محمّلة بما لم تُقلْه المجاملات، وما لم تحمله التقارير والخطابات الرسمية. إنها محاولة شعرية للقبض على سيرةٍ صامتة، حكيمة، أثرت دون أن تُشهر، وغرست دون أن تتكلف البوح.

فمن خلال رمزية الصورة وهدوء الإيقاع، تُسعف هذه القصيدة ذاكرتنا بأثر رجلٍ كان معلمًا وإنسانًا وشاعرًا، حضر في النفوس قبل أن يظهر في المنابر.

في البلاغة، لا يكون الجمال دائمًا في اللفظ، بل في التوازن بين الصورة وسياقها، وفي العدل بين عناصر المعنى، بحيث لا يطغى جانب على آخر دون مسوّغ.

ومن الطريف أن بعض النصوص الأدبية القديمة قدّمت صورًا متقلبة عمدًا، كوسيلة لتأمل المعاني من أكثر من زاوية.

ويُعدّ كتاب “تحسين القبيح وتقبيح الحسن “؛ مثالًا بارزًا لهذا الأسلوب البلاغي.

وهنا، يشرع الشاعر في بناء ملامح الصورة الأولى، مُفتتحًا قصيدته بهذا البيت:

“البعضُ من بعضِ الرجالِ الكرامْ

اللي على نهجِ الشريعةِ والإيمانْ”

يبدأ بمدح الممدوح بعبارة تُوحي بالتفرّد والخصوصية؛ إذ لا يُقصد بـ”البعض” المعنى العددي فقط، بل قِلّة مختارة من الرجال الفضلاء والنبلاء. وتعبير “البعض من بعض” يرسّخ معنى النُدرة، كما لو قال: “صفوة من صفوة الرجال الكرام”.

ويُوصف الممدوح بأنه من أولئك الذين يتحلون بالكرم الحقيقي، ويسيرون على نهج الشريعة ويؤمنون إيمانًا راسخًا، ما يجعله نموذجًا يُحتذى في الأخلاق والسلوك.

ومن الوجهة البلاغية، يدخل هذا البيت في باب “التخصيص بعد التعميم”، وهو من المواضع التي حذّر منها البلاغيون والنحاة إن لم يكن لها مبرر ظاهر. وقد أشار إلى ذلك ابن هشام في مغني اللبيب، والسكاكي في مفتاح العلوم؛ حيث شدّدا على ضرورة وضوح العلة عند التقييد في الثناء أو الذم.

وفي هذا السياق، يُستأنس بما يُعرف في البديع بـ“لزوم ما لا يلزم”، وهو أن يُقحم الشاعر في التركيب ما لا يتطلبه السياق من جهة نحوية أو صرفية، وإنما يُستحسن من جهة لفظية أو إيقاعية. ويُعدُّ من دقائق الصنعة اللفظية التي يُثني عليها البلاغيون إذا جاءت في موضعها. ومن ذلك أن تُجعل كلمة كـ”الرَّويّة” مركزًا معنويًّا يُبنى عليه ما قبله، لا على جهة اللزوم، بل لطلب جمال النظم وتحسين الإيقاع.

وقد عدّه ابن سنان الخفاجي من دقائق الصناعة البيانية التي “لا يُدرِكها إلا المطبوع”، واحتفى به الجرجاني في دلائل الإعجاز، حين أشار إلى أن “اللفظة قد يُطلب بها ما هو أكثر من معناها، فتُحمل على موضعٍ يؤنس النغم ويُرضي الطبع”.

فهذا النوع من التركيب يُضفي على النص اتساقًا رمزيًّا وثقلًا إيقاعيًّا، يزيد من ثرائه دون أن يكون تكلّفًا معيبًا.

ومن الشواهد الأدبية على هذا النمط ما ورد في كتاب تحسين القبيح وتقبيح الحسن؛ إذ كانت زهرة البنفسج، برمزيتها الجمالية والرائحية، موضعًا لمفارقة بلاغية لافتة. فقد قُبّحت في موضع، ومُدحت في آخر، كما في قول أبي الفضل الميكالي:

“يا مهدياً لي بنفسجًا سمجًا

ودِدتُ لو أن أرضهُ سبَخُ”

ثم عاد في موضع آخر فقال:

“يا مهدياً لي بنفسجًا أرجا

يرتاحُ صدري له وينشرحُ”

هذا التقلّب في الموقف من ذات الشيء ليس ارتباكًا بلاغيًّا، بل تمرينٌ على إدراك كيف يتغيّر المعنى إذا أُفرِد أحد عناصره دون النظر في الصورة الكاملة.

وهذا يشبه ما قد يستوقف القارئ في تعبير: “البعض من بعض الرجال الكرام”، دون أن يجد إشارة لبقيّة “الكرام”، ما لم تكن هناك خلفية شخصية للسياق، كما أشار الشاعر في خاتمة القصيدة. ومن هذا الباب تحديدًا، يمكن فهم بعض صور “التخصيص بعد التعميم” التي قد تبدو التباسًا في ظاهرها، بينما هي في حقيقتها استدعاء دلالي خاص، يُبقي للقارئ هامش التأويل.

وينتقل الشاعر إلى البيت التالي ليُبرز صورة الممدوح أكثر:

“رايه يبدّد ليلَ دامٍ وظلامْ

مثلَ القمرِ في عتمةِ الليلِ لابانْ”

يشبّه الشاعر رأي الممدوح بأنه نور يمزق ظلمةً دامسة، فهو لا يُبدي رأيًا إلا وكان كاشفًا للحق، جليَّ الدلالة، ظاهر الحكمة. وقد اختار لفظ “دامٍ” ليعبّر عن ليلٍ مشوب بالحزن، مثقل بالألم والمعاناة، وهو وصفٌ لا يخلو من بُعد وجداني عميق؛ إذ يُوحي بأن حضور الممدوح ورأيه كان في لحظةٍ موغلةٍ في الوجع، فجاء بمثابة بصيص أمل وسط العتمة.

وفي قوله “مثل القمر في عتمة الليل لابان”، يكتمل التشبيه بظهور وجه الممدوح كقمرٍ يضيء وسط العتمة، حاملاً بصيرة وصفاءً يفتح آفاق الفهم ويبدد الظلمات.

وفي البيت الثالث، يستمر التأكيد على حكمة الممدوح وصفاء قلبه:

“الحكمةُ في رأيهِ، ولا به ملامُ،

من طيبِ قلبهِ ما تغيّرَ ولا مالَ”

صفة الرجاحة والحكمة تلازمه؛ فلا يُلام في قراراته، لأن منطقه سليم ونيّته صافية. ثم يشيد بثباته، فهو لا يتغيّر رغم تقلبات الزمن، بل يحافظ على طيب قلبه واستقامته. ثم ينتقل إلى إبراز عزيمة الممدوح ومكانته الرفيعة في البيت الرابع:

 “ودايم عزيم الراي عالي المقام

أمثال أبو أحمد طيب العلم جمعان”

يستعرض الشاعر في هذا البيت ثبات الشخصية وصدق الموقف: لا يتلون، لا يخشى، لا يخادع، ولا يُغريه إلا ما وافق قناعاته.

ويُخصّصه بالاسم “أبو أحمد جمعان” ليُبيّن أنه ممن يُضرب بهم المثل في طيب العلم وصفاء النفس.

وأخيرًا، يختتم في هذا البيت٫ بتوصيف الممدوح بأنه نصير الحقّ وحكيم العرف عبر الزمان:

 “هذا نصيرُ الحقِّ في عسرِ الأيامِ،

وهذا حكيمُ العرفِ في كلِّ الأزمانِ”

يعبّر الشاعر عن امتنان عميق وتقدير صادق للممدوح، الذي ظهر في موقف عصيب بكلمةٍ جمعت الحزم والحكمة، فكانت بمثابة البلسم في لحظةٍ مضطربة. وقد وصفه بـ”نصير الحق” في الأوقات العصيبة، إشارة إلى ثباته واتزانه حين تشتد المحن، وبـ”حكيم العرف” في كل الأزمان، لما يصدر عنه من رأي راجح، وموقف راشد، يجعل من حضوره قيمة مضافة، ومن كلمته بوصلة تهدي ولا تضل.

لذا استحق أن يُوصف بـ”حكيم العرف في كل الأزمان”.

خاتمة القول:

ما هذا الجهد إلا محاولة فردية للاقتراب من أوجه البلاغة وجماليات المعنى في هذه القصيدة. وقد كُتب ما سبق كخطوة أولى ضمن مسار طويل، يتطلب قراءات أعمق ومقاربات أوسع، لقصيدةٍ حملت في طيّاتها وفاءً وموقفًا بقدر ما حملت من جماليات فنية.

وفي ظل ما نقرأه من أشعارٍ شعبية تستحق إعادة التأمل وتسليط الضوء، نقول: لقد فتح هذا البيت أمامنا أفقًا لتقصّي البلاغة، ومنحنا فرصة لرؤية المعنى الكامن خلف الكلمات؛ فهو بيت لا يُردّ بالاعتراض، بل يُستقبل بقراءة تحليلية منصفة تكشف أبعاده وتُنصف مقصده، بعيدًا عن الانطباعات العجلى.

بل إن هذا البيت تحديدًا كان بمثابة المصبّ الرئيسي للقصيدة، الذي وسّع مدارك الفهم، ومهّد لتأمل أعمق في الخلفية البلاغية للنص. وعند التوقف عند عبارة: “البعض من بعض الرجال”، قد يبدو ظاهرها تكرارًا، غير أن باطنها يشي بإشارة بلاغية دقيقة إلى تراكم قيمي، وتوارث نقي، بل وإلى قلة القلة كما أسلفنا في التحليل. ومن منطلق الحكمة الصينية: “أن تُشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام” أقول: “إشعال شمعةٍ في عتمة التلقّي، خيرٌ من لعن الظلام.

هامش بلاغي:

في تعبير: “البعض من بعض”، تبرز نغمة بلاغية تستحق التوقف؛ فالتكرار لا يُقصد به مجرد التوكيد، بل قد يُوحي – على وجه الاحتمال – بمرتبة نادرة تُفهم بـ”قلّة القلة”، أو “صفوة الصفوة”، حيث تستبطن العبارة طبقة خفية من المعنى تُضفي على المنسوب إليهم مسحة من التميز والندرة.

هذا النوع من التراكيب يُستأنس به في علم البلاغة ضمن ما يُعرف بـ”التلميح اللغوي” أو “التركيب الإيحائي”، حيث لا يُصرّح المعنى مباشرة، بل يُلمح إليه بلغةٍ توحي بالتفرد. وقد أشار البلاغيون القدامى إلى هذه الظاهرة، كالجاحظ في حديثه عن الطبقات الخفية للمعنى، والزمخشري في تحليله لأساليب الإيجاز والإيحاء، وعدّوها من ملامح التخصيص البياني حين تتجاوز الكلمة دلالتها الظاهرة إلى دلالة أعمق.

وقد مرّ بنا مفهوم “لزوم ما لا يلزم” في موضع سابق، وهو ما يمكن أن نُسقِط عليه بعض الصور الشعرية التي تُبنى على التلميح لا التصريح، فتتضاعف بذلك قيمة المعنى. ومع ذلك، فإن تركيب “البعض من بعض” شائع في السياقات الدالة على التماثل والصلة، كما في قوله تعالى:

﴿بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾ [آل عمران: 195]،

وقد فسرها ابن كثير بأن المراد: أن المؤمنين – رجالًا ونساء – في ثواب الله سواء، وهم مرتبطون بروابط الإيمان، لا بمرتبة الندرة أو الصفوة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن بلاغة القرآن الكريم لا يُضاهيها بيان، وأن ألفاظه محكمة المعنى، مقصودة الدلالة، لا تحتمل التأويل البلاغي المفتوح الذي يُمارس في غيره من النصوص.

وعليه، فإن المعنى الإيحائي الذي قد يُفهم من العبارة يدخل في باب القراءة البلاغية العمودية في النصوص الأدبية، حيث لا تتوقف اللغة عند ظاهرها، بل تُستثمر في خلق دلالة ثانية، كما في قولنا: “درٌّ من الدرر”، أو “قطرة من نبع نادر”؛ وهي تعبيرات تكتسب قوة الإيحاء دون أن تصرّح بها لفظًا.

أما في السياق القرآني، فالمقام يقتضي الوقوف عند المعنى الظاهر الذي حدده المفسرون، دون تحميل اللفظ دلالة بلاغية تتجاوز مقصود النص.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com