محاسن موتاكم
د. أشرف سالم
يُحكى أنَّ قائدًا كان أعرجًا وأعورَ من أثر المعارك والحروب، فأراد يوما أن تُرسم له صورةٌ شخصية لا تظهر فيها عيوبه، فدعا رسامي بلده ليرسموا له ما أراد، فتهرّبَ الفنانون من رسم هذه الصورة، فكيف سيرسمون القائد بعينين وهو لا يملك سوى عينٍ واحده؟،
وكيف يصورونه بساقين سليمتين وهو أعرج؟، إلا أن رساما نبيها ومبدعا، يملك حساً إنسانيا، تقدم تلبية لطلب قائده وسط ذلك الإحجام والرفض الجماعي، فقد تفتق ذهنه عن فكرة جميلة تغلّب فيها على أسباب تنصل الجميع من رسم قائدهم، وبالفعل رسم صور جميلة وفي غايــة الروعة.
حيثُ قام برسم القائد وهو في رحلة قنص مصوبًا بندقيته نحو فريسة مُغمضًا عينه العوراء وجالسًا متكئًا على رجله العرجاء، وهكذا وبحركة لطيفة ومنطقية، تغلـَّب على عيوب الشكلِ عند قائده برسم صورته وكأنَّه بلا عيوب، مما جعل القائد يسعدُ كثيرًا بهذه الصورة، ويُحسن تقديرَ وإكرامَ راسمِها، فطبيعةُ البشر أن الإنسانَ يحب أن يراه الناسُ في أجمل صورة.
ذكرتني بهذه القصة ظاهرةٌ تزعجني من إفرازات وسائل التواصل الاجتماعي، التي شاع فيها عند فقد أحد الأصدقاء لغالٍ عليه؛ أن ينشر نعيًا له وربما بعض المعلومات الإضافية لمن أراد المشاركة في مراسم الصلاة والعزاء، وهذا في حد ذاته لا بأس به كطريقة من طرق الإشعار والإعلام وهي من أهم وظائف تلك المواقع.
إلا أنَّ بعضَ الناشرين يضيفون إلى نعيهم صورة المتوفي؛ وأيضًا لا نعترض على ذلك لكيلا نحرّمُ مباحًا ونحجّر واسعًا؛ ولكن المشكلة تكمن في اختيار هذه الصور، حيثُ يعمدُ البعض لاختيار صورة للفقيد وهو في أواخر أيامه ومرض موته في حالةٍ متهالكةٍ من الهرم والوهن، أو ربما بسبب عدم وجود صورة حديثة للراحل يلجأُ إلى صورة ورقية قديمة مهترئة أفسدها الزمن؛ فيصورها بشكل متعجل وينشرها مرفقة بنعيه باهتةَ المعالم سلبيةَ الأثر.
وهنا أطرحُ سؤالين على هؤلاء الناشرين: أولهما وأهمهما “هل لو كان فقيدك الراحل على قيد الحياة وفي كامل وعيه وإدراكه؛ هل سيرغبُ وسيقبل أن تُنشرَ له على الملأ (واسع الذيوع والانتشار) صورةٌ تسيء إلى شكله وربما تنتقص من قدرهِ ومكانته؟؛ السؤال الثاني يا أخي الناشر (وندرك قدر إعزازك لفقيدك)؛ هل من ضرورة لنشر أي صورة له حتى لو كانت غير لائقة به؟؛ أو غير مناسبة للنشر (خاصةً للنساء من أمهاتنا الغاليات الراحلات)؟.
أبادر بالإجابة قبل أن يُطرح التساؤل ممن قد يرى أن هذه القضية أهونُ من أن أجردَ لها قلمي؛ وأهدرَ فيها مساحتي الصحفية؛ ولن أخفي عليكم الحافز عندما رأيت صورة منتشرة للدكتور مصطفى محمود رحمه الله في فراش مرضه الأخير وهو غائبٌ عن الوعي وقد ضمر جسده وجفت بشرته وتغيرت ملامحه؛ ربما صورها إعلامي فضولي متطفل وظنهًا سبقًا صحفيًا، هذا الفذ مصطفى محمود الطبيب الأديب؛ والداعية الفيلسوف، صاحب التسعين مؤلفًا؛ والأربعمئة حلقة تلفزيونية عن “العلم والإيمان”، هذا الرائد في العمل الخيري والنموذج في النفع الاجتماعي، الذي كان أثناء حياته قنديلاً مُشعًا ملأ السمع والبصر؛ تنقله حماقةُ متطفل إلى دائرة الإشفاق والابتئاس.
يا جماعة الخير “انشروا محاسنَ موتاكم”.