عسير… الأرض تبوح بحكاياتها .. جبال تحرس الجمال

الاتجاه – محمد بن مسعود العُمري:
هنا، لا تُقاس الرحلة بعدد المواقع التي تزورها، بل بعمق الشعور الذي تتركه فيك.
رحلةٌ تختزل سحر الطبيعة وعمق الإنسان، تمتد بين سودة أبها، وأرياف خميس مشيط، وقرية “صبح” في محافظة بلّحمر، فتبوح لك الأرض بحكاياتها، ويأخذك المكان إلى مساحات من الدهشة والتأمل.
في بعض الرحلات، لا تكون الغاية الوصول إلى مكانٍ جديد، بل إلى شعورٍ قديم يسكنك ولا تدري.
وبين الطرقات والمشاهد، هناك مدن لا تمرّ بها فحسب، بل تمرّ بك.
ليست الحكاية عن أبها وخميس مشيط كمدينتين، بل عن أثرهما حين يلامسان شيئًا في داخلك… أثرٌ يُكتب لا بوصف الجغرافيا، بل بلغة القلب.
أثناء زيارتي لمدينتي أبها وخميس مشيط، في عطلة عيد الأضحى المبارك لهذا العام، حيث اتسع الوقت للتأمل، واتسعت الذاكرة للمكان، لا أدري من أين أبدأ برحلة قلمي، وأين سأتوقف.
جذبني ذلك الجمال، واحتويت فكرتي واختصرتها بهذا الوصف، فلو شرعتُ في التفاصيل، لوجدتُ في كل مكان محطة تستدعي الوقوف.
وهذا ما جاد به قلمي، فإن الزاد قليل، وما في السطور نتاج خاطرٍ بين لحظات التأمل.
عبق التراث في أحياء المدن:
وما يميز منطقة عسير عمومًا، وأبها وخميس مشيط خصوصًا، ليس فقط جمال أجوائها وتنوع تضاريسها، بل ذاك التماسك الملموس في المحافظة على الموروث الثقافي والمعماري.
ففي أحياء المدينتين، تشاهد مبانٍ حديثة تتوشح بجمال اللمسات التقليدية، وكأنها تقول إن الأصالة لا تموت، بل تعيش في كل زاوية، وتتنفس من كل حجر.
سودة أبها.. الأرض التي تعانق السحاب:
في سودة عسير، يرتقي البصر كما ترتقي الروح.
إنها الأرض التي تعانق السحاب، وترتفع بك فوق كل ضجيج، لتمنحك لحظة صفاء لا تُشبه إلا نفسها.
جبالها الشاهقة تقف شامخة كأنها تحرس الجمال، وتضاريسها المتنوعة تنبئك بعظمة الخالق، وتدفعك للتأمل في أسرار الطبيعة وروعة التكوين.
الأجواء هنا عليلة، والهواء يحمل نسمات باردة تنعش القلب، أما المشاهد فهي لوحات من الخيال: أشجار العرعر تكسو المرتفعات، والسحب تتراقص بين القمم، وتلك الطرق الجبلية المتعرجة تقودك إلى عوالم من السحر الطبيعي قلّ أن تجد لها مثيلًا.
خميس مشيط… مدينة تُبهرك بجمالها الفاتن:
تبهرك خميس مشيط بجمالها الفاتن الذي يجمع بين الهدوء والدهشة.
مدينتها تمتد بروحها الأصيلة، وأسواقها الجميلة في وسط المدينة تفوح منها رائحة الماضي، وتُعرض فيها منتجات تحكي تراث المنطقة وتنوعها.
تمد يدها للزائر بمنتزهات تمزج بين الطبيعة والتأمل، وعلى رأسها منتزه الحبلة الذي يُعد من أعاجيب الطبيعة.
تقف هناك على قمة شاهقة، وتطل على قرى قديمة تجثو بين الجبال، فتسبح بفكرك وتتساءل: كيف عاش أولئك الناس في بيئة بهذا القدر من الوعورة؟
كيف بنوا، واستزرعوا، وتكافلوا؟
إنه مشهد يثير الإعجاب بقدرة الإنسان على التكيف، ويُبرز عمق العلاقة بينه وبين البيئة التي احتضنته، مهما اشتدت ظروفها.
كما يحتضن منتزه دلغان في خميس مشيط الطبيعة في أبسط وأجمل صورها.
خضرة تحف بالمكان، وجلسات تتوزع على ضفاف الظلال الوارفة، وأشجار تتمايل بهدوء تحت نسيم عليل، في مشهد يفيض بالسكينة.
صوت الأرض في قرية “صبح”:
وخلال جولتي، خرجتُ إلى أطراف المدن متجهًا إلى قرى بلّحمر، وتوقفت عند “قرية صبح”.
الطريق المؤدي إليها يمرُّ بك على بلاد زراعية باسطة ذراعيها للضياء، والزروع تنمو هناك بطمأنينة، كأنها ترحب بك وتحدثك عن جهد الأجداد وصبرهم.
تلك المزارع ما زالت شاهدة على علاقة لا تنفصم بين الإنسان وأرضه، علاقة تتجاوز الزمان، وتُروى بالعزيمة والانتماء.
مذاق عسير… على مائدة الذكرى:
وحين تتجول في تلك الأرياف، لا يكون للطبيعة فقط حديث، بل للنّكهة أيضًا رواية.
بعد هذه الجولة، توقفتُ لأتذوّق بعض الأكلات الشعبية التي تُعدّها إحدى الأسر المنتجة في أبها، فكانت التجربة أشبه بعودةٍ إلى الجذور.
المشغوثة، والتصابيع، والعريكة… أطباق لا تُقدَّم فقط لإشباع الجوع، بل تُقدَّم كما تُروى القصص: بعناية، وبشغف، وبيدٍ تعرف قيمة ما تفعل.
وما زاد الطعم تفردًا أن حبوب الذرة البيضاء والبر المستخدمة كانت محلية، من إنتاج أراضي عسير الزراعية التي تشتهر بمنتجاتها عالية الجودة والمذاق الأصيل.
هذه الأسرة المنتجة تمثل نموذجًا من البساطة المتقنة؛ تحرص على تقديم أطباقها بجودة عالية، ونكهة لا تُنسى، ونظافة وحُسن ترتيب، وكأنها تقول لزبائنها: نحن لا نبيع طعامًا فقط، بل نمنحكم تجربة.
نحن نشجّع مثل هذه الأسر، ونثق فيما تقدّمه أيديهم من أطباقٍ تحمل هوية المكان، وتُلامس ذاكرة الذوق والحنين.
فمن أراد الطعم الأصيل، والنكهة التي تُشبه البلاد… فليطرق أبوابهم.
عسير… صورة الجمال في تفاصيله الصغيرة:
في عسير، يتجلى الجمال في أبهى صوره؛ في الطبيعة، في الإنسان، وفي الحكاية التي تحكيها كل صخرة، وكل بيت، وكل ظل شجرة.