صحيفة,أخبار,جريدة,صحف,جرائد,أخبار اليوم,أخبار عاجلة,آخر الأخبار,صحيفة إلكترونية,صحيفة رقمية,منصة أخبار,بوابة إخبارية
مقالات

صراع إيران وإسرائيل: الإقليم أمام لوحة معقدة

د. نوف بنت عبدالعزيز الغامدي

لم تعد الحرب احتمالًا… بل واقعًا يتشكل على الأرض، ويتمدد في السماء، ويتنفس في الكواليس. لم يعد السؤال هو: “هل ستقع الحرب؟”، بل: “أيّ شكل ستأخذه؟ وهل ستنتهي أصلًا؟”.

فالضربات الإسرائيلية الأخيرة لم تكن استعراضية، بل موجّهة بدقة إلى البنية التحتية العسكرية الإيرانية، وتعكس عمق الاختراق الأمني. أما إيران، فرغم خطابها المتحدي، تدير المواجهة بذكاء المراوغة: ترد أحيانًا، وتتريث كثيرًا، وكأنها تكتب سيناريو الرد على نار هادئة. واللافت أن كل الأطراف – بما فيها الولايات المتحدة – تتحرك على حافة الهاوية دون إعلان حرب رسمي أو قبول بتسوية فعلية. إيران ترد بما يكفي لإظهار القوة، وتراهن على استنزاف الخصم أكثر من تحقيق نصر حاسم، بينما تحاول تأجيل الانكسار عبر صمود محسوب، وإعادة ترميم منشآتها، على أمل أن يتعب الغرب قبل أن تُنهك إسرائيل.

ومع دخول الولايات المتحدة على خط المواجهة بشكل أكثر وضوحًا، اتخذ المشهد بعدًا استراتيجيًا بالغ الحساسية. فبعد اجتماع ضم الرئيس الأميركي دونالد ترامب وعددًا من القادة الأمنيين، أعلنت الإدارة الأميركية استعدادها للانخراط العسكري المباشر في حال تعرضت مصالحها أو مصالح إسرائيل لأي تهديد إيراني جديد. ترامب، في خطاب علني، وصف الاتفاق النووي السابق بأنه “مات وانتهى”، داعيًا إيران إلى “الاستسلام بلا شروط”، ومؤكدًا أن “الولايات المتحدة تسيطر بشكل كامل على الأجواء فوق إيران”، في تحول حاد يُعيد تشكيل معادلة الردع، ويزيد من تعقيد خيارات طهران المحاصرة دبلوماسيًا وعسكريًا واقتصاديًا.

على المستوى الدولي، تكشف المواقف المتباينة للدول الكبرى والناشئة عن عمق الارتباط بين اعتبارات الأمن القومي وضرورات الاقتصاد. فالاتحاد الأوروبي، رغم دعواته للتهدئة، يواجه أزمة ثقة في أدواته الدبلوماسية، وسط تخوف حقيقي من تعطّل تدفقات الطاقة القادمة من الخليج. أما الصين، فتتعامل مع الخليج كممر حيوي ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، وتسعى لضمان استقرار الممرات البحرية التي تغذّي مصانعها وتدعم صادراتها، دون أن تنزلق إلى مواجهة علنية مع واشنطن أو تل أبيب.

كوريا الجنوبية، التي تعتمد صناعاتها الثقيلة على إمدادات الطاقة القادمة من الخليج، اتخذت إجراءات احترازية لتأمين سلاسل التوريد دون الدخول في اصطفاف سياسي، بينما تسعى روسيا إلى استثمار التصعيد لزيادة عائداتها من النفط والغاز عبر اضطراب الأسواق، وتُعيد تقديم نفسها كوسيط تقني واقتصادي من بوابة الملف النووي الإيراني. حتى مواقف الدول الإسلامية والعربية، وإن كانت في ظاهرها قانونية وسيادية، إلا أنها تنبع من إدراك جماعي بأن أي اثر على الخليج لن يكون أمنيًا فقط، بل اقتصاديًا بشكل بحت، أولًا: على مستوى أسعار الغذاء، كلفة النقل، استقرار العملات، وجدوى الاستثمارات البينية.

لكن أخطر ما يتكشّف في هذا التصعيد هو كيف تتقاطع اقتصاديات الدول وتتعارض ضمن ساحة واحدة. فالتشابك العميق بين أمن الطاقة، سلاسل الإمداد، وحركة الملاحة البحرية، يجعل من أي اضطراب في الخليج تأثيرًا مباشرًا على اقتصادات العالم. إذ تمر أكثر من 20% من إمدادات النفط العالمية عبر مضيق هرمز، إلى جانب شحنات الغاز الطبيعي المسال التي تمثّل شريانًا حيويًا لاقتصادات آسيا وأوروبا. هذا التوتر دفع العديد من شركات النقل البحري إلى إعادة جدولة مساراتها، مما أدى إلى ارتفاع في أسعار التأمين وزيادة زمن الشحن وتضاعف الكلفة التشغيلية على التجارة الدولية.

وتفاعل سوق النفط مع التطورات العسكرية، حيث ارتفع سعر خام برنت إلى ما بين 74‑76 دولارًا للبرميل، بعد قفزٍ بنسبة 7% في 13 يونيو وتسجيله 76.45 دولارًا في 17 يونيو، ثم تراجع إلى 73.23 دولاراً.

ولا يقتصر التأثير على أسواق الطاقة فقط، بل يمتد إلى طرق الملاحة العالمية التي تمر عبر الخليج العربي، والتي تُعد من أعمدة التجارة البحرية الدولية. فمضيق هرمز، إلى جانب بحر العرب وبوابة خليج عمان، تمثل مسارات عبور لما يزيد عن 30% من تجارة النفط والغاز المسال البحرية، ونحو 12% من إجمالي التجارة العالمية المنقولة بحرًا. ومع كل توتر عسكري أو استهداف للسفن أو الموانئ، ترتفع تكلفة الشحن والتأمين بنسبة تتراوح بين 20% و40%، بحسب تقديرات شركات المخاطر البحرية، مما يُضعف الجدوى التجارية لعدد كبير من الخطوط البحرية بين آسيا وأوروبا.

وقد بدأت بعض الحكومات وشركات الملاحة بدراسة مسارات بديلة لتعزيز الأمن الملاحي، مثل توسيع الاعتماد على الموانئ العُمانية، وتفعيل الربط البري بين موانئ الخليج والبحر الأحمر عبر السعودية. كما تعود قناة السويس إلى واجهة النقاش كممر استراتيجي يحتاج إلى دعم استثماري وتقني لتوسيع طاقته الاستيعابية. في هذا السياق، تتحوّل الجغرافيا البحرية إلى أداة اقتصادية حساسة، حيث باتت كلفة التأمين والمخاطر السياسية جزءًا من معادلة الربحية العالمية.

اقتصاديات الطاقة هنا لم تعد مجرد مورد، بل تحوّلت إلى أداة ضغط استراتيجي. فإيران تلوّح ضمنيًا بأنها قد تستخدم المضيق كورقة تفاوض أو ردع، بينما تسعى دول الخليج إلى حماية مكاسبها الاستثمارية ومسارات التحول الاقتصادي. في المقابل، ترى الصين في استقرار الخليج أساسًا لإنجاح مشروعها الاستراتيجي، بينما تعتبره واشنطن جزءًا من منظومة التفوق البحري العالمي. وهنا تتعارض الحسابات: كل طرف ينظر إلى المضيق من زاوية مختلفة، أحدهم يراه مصدر نفوذ، والآخر نقطة ضعف يجب تحصينها.

هذا ما يجعل الأثر الاقتصادي أكثر خطورة من المشهد العسكري ذاته. فارتفاع أسعار النفط وتذبذب الأسواق المالية لا يعكس فقط الخوف من الحرب، بل يكشف هشاشة النظام الاقتصادي العالمي أمام أي خلل جيوسياسي في المنطقة. كما أن استمرار التوترات يُعرقل جهود التعافي، ويضغط على سياسات البنوك المركزية، ويعيد رسم خريطة التحالفات الاستثمارية، ويدفع الدول الصناعية إلى مراجعة عقودها في الطاقة وسلاسل الإمداد.

وفي خضم صراع الصواريخ والمواقف، هناك جبهة أخرى لا تقل أهمية: “جبهة الرواية” فالمعارك اليوم لا تُخاض فقط بالسلاح، بل أيضًا بالكاميرا والمنصة والبيان الموجّه بعناية. تتسابق الأطراف على كسب تعاطف الجمهور الدولي، واحتلال مساحة الوعي الجمعي عبر الإعلام التقليدي ومنصات التواصل. إسرائيل تروّج سردية “الدفاع الاستباقي”، فيما تستثمر إيران في خطاب “المظلومية السيادية”، وكل طرف يدرك أن كسب المعركة على الشاشة قد يُحدث فرقًا في ميدان الحرب، حتى الخوارزميات لم تعد محايدة؛ فالتقنيات الحديثة أصبحت جزءًا من أدوات الحرب النفسية والتأثير السياسي. إنها حروب تُدار على جبهات العقول، لا تقل شراسة عن جبهات السلاح.

ما يجري اليوم ليس مجرد صراع على منشأة أو شخصية، بل على قواعد اللعبة في الشرق الأوسط. إنه تنازع بين مشروعين: أحدهما يسعى إلى بناء توازن رادع، وآخر يريد فرض الهيمنة عبر الفوضى. وفي لحظات كهذه، لا أحد يبحث عن نصر مطلق، بل فقط عن ألّا يكون هو الخاسر الأكبر.

لكن الواقع الأشد مرارة هو أن أكثر السيناريوهات خطرًا هو ذاك الذي لا يُحسم. أن يستمر كل شيء بلا نهاية… في استنزاف لا يُسقط أحدًا، لكنه يُنهك الجميع. ففي حروب اللاقرار، لا أحد يربح… والجميع يخسر، ببطء، في هذا الفراغ بين الرغبة في الرد والخوف من الانفجار، يظهر أخطر أنواع الحروب: اللاحسم. إنه صراع لا يُعلن، لكنه يُدار. لا يُخاض حتى النهاية، لكنه لا يُوقف تمامًا.

وفي مثل هذه البيئة الرمادية، تتحول اللاقرارات إلى كلفة مركبة تتسلل إلى كل مفصل اقتصادي: من ارتفاع أسعار التأمين البحري، إلى تذبذب أسعار السلع الأساسية، إلى تآكل الثقة في بيئة الأعمال، وزيادة المخاطر الممتدة في الأسواق الناشئة. فاللاحسم لا يستنزف فقط الجيوش، بل يرهق الموازنات، ويُربك التخطيط الاستثماري، ويُعيد تشكيل المخاطر السيادية في المنطقة. وفي هذه الحالة، تصبح تكلفة “الانتظار” أعلى من تكلفة “الحسم”، حتى لو لم يكن الحسم ممكنًا.

……

(*) مستشارة في التنمية الاقتصادية وحوكمة إقليمية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com