الشعر الشعبي وأبعاده الرمزية: تحليل لقصيدة “رأس الأجلح”
الاتجاه – محمد بن مسعود العُمري:
الشعر ليس مجرد كلمات تُلقى لمجرد التباهي أو لتحقيق المصالح الشخصية، بل هو رسالة سامية تعبّر عن القيم والمبادئ، وتتجاوز الوصف الظاهري للأحداث لتصل إلى عمق التجربة الإنسانية.
والشعر الشعبي، على وجه الخصوص، يحمل في طياته قدرة فريدة على تصوير الواقع بأسلوب بسيط في ظاهره، لكنه عميق في معانيه، لا سيما حين يكون نابعًا من شاعر متمكن، يمتلك أدواته الفنية واللغوية.
ومن بين هؤلاء الشعراء، الذين تجبرنا قصائدهم على الوقوف عندها، الشاعر عيدان بن صنيق العُمري، أحد شعراء وادي ممنا الشعبيين، الذي يتميز بأسلوب يجمع بين الواقعية والرمزية، ويجعل من كلماته نافذة نرى من خلالها مواقفه ومبادئه بوضوح. \
ومن بين قصائده التي تستحق التأمل، هذه القصيدة التي تعكس موقفًا مرّ به، فعبّر عنه بطريقته الشعرية الخاصة، موظفًا الرمزية والإيحاء بأسلوب يجمع بين القوة والوضوح.
يقول الشاعر في البدع:
أهل اليمن غطوا على المابقات
حطوا صلاة الوتر بعد الفجور..
والفقر قيدهم وشعمل بهم..
ما ينتج التعليم في الراس الأجلح..
قم طف نارك يا أخ شبيتنا..
يبدأ الشاعر بمقدمة تحمل دلالة رمزية عميقة، حيث يشير إلى تحولات غير منطقية تحدث في المجتمع، مستخدمًا تعبير “غطوا على الما بقات”، أي أنهم تجاهلوا الحقائق أو تعاموا عن القيم المتبقية. ثم يأتي بالمثال الساخر في قوله “حطوا صلاة الوتر بعد الفجور”، وهو تعبير يدل على التناقض الواضح بين الأفعال والمعتقدات، إذ كيف يمكن الجمع بين عبادة خالصة ومعصية واضحة؟ ثم ينتقل إلى الحديث عن الفقر وتأثيره على الناس، لكنه لا يبرر لهم التخلي عن المبادئ، بل يوضح أن الظروف الصعبة قد تدفع البعض إلى قرارات غير صائبة.
وهنا تأتي الصورة البلاغية القوية في قوله: “ما ينتج التعليم في الراس الأجلح”، حيث تحمل هذه العبارة دلالتين متداخلتين: فـ “الأجلح” في اللغة يعني الأصلع، وهنا يكون المعنى أن الرأس الأصلع، كناية عن شخص لا يستفيد من التعليم، كمن يحاول أن يزرع في أرض لا تُنبت. لكن في الوقت نفسه، “الأجلح” هو اسم جبل يقع في المنطقة التي يقطنها الشاعر، وهو جبل أملس لا تنمو فيه الأشجار، وإنما تنبت فيه بعض النباتات الجبلية القليلة، كما أنه جبل شاهق مطل على العديد من القرى. واستُخدم هذا الاسم ليحمل بُعدين، أحدهما جغرافي، والآخر رمزي، في إشارة إلى أن بعض العقول قد تكون كالجبل الأملس، لا تستقبل الفهم ولا تنبت فيها المعرفة.
أما قوله “قم طف نارك يا أخ شبيتنا”، فهو دعوة صريحة لإيقاف المشكلة قبل أن تتفاقم، وكأن الشاعر يوجه حديثه إلى شخص أثار قضية تسببت في اضطراب بين الناس، مطالبًا إياه بوضع حد لها قبل أن تتطور إلى ما لا يُحمد عقباه.
ويأتي الرد على البدع في ذات السياق، حيث يقول الشاعر:
يبغون ينزوني في الموبقات..
أهل المشاكل والفتن والفجور..
لكن أنا ما دري وش أعمل بهم..
كنا ندارقها وهي راس الأجلح..
واليوم عادت في خشب بيتنا..
في هذا الرد، يكشف الشاعر عن طبيعة ما واجهه، حيث يوضح أن هناك من أراد أن يزجّ به في “الموبقات”، أي المعاصي والمخالفات، ويصف هؤلاء بأنهم أهل “المشاكل والفتن والفجور”، مما يعكس طبيعة من يتعامل معهم.
ثم يأتي التساؤل الذي يعكس الحيرة “لكن أنا ما دري وش أعمل بهم..”، فهو في موقف لا يُحسد عليه، حيث يحاول تفادي الدخول في مشكلة لا تعنيه.
ويعود مرة أخرى إلى الرمزية القوية بقوله: “كنا ندارقها وهي رس الأجلح”، فالتعبير هنا يصور كيف كانوا يتجنبون المشكلة في بداياتها، ويشبها بالجبل الأملس الذي كانوا يتفادونه، في إشارة إلى أن المشكلة كانت بعيدة وغير مؤثرة عليهم. لكن الصدمة الكبرى تأتي في البيت الأخير: “واليوم عادت في خشب بيتنا”، حيث يوضح أن الأمر لم يعد بعيدًا كما كان، بل أصبح قريبًا جدًا، بل داخل بيته، مما يجعله في موقف أكثر تعقيدًا.
وهنا تتجلى الرمزية مرة أخرى، فكما أن الجبل الأجلح كان بعيدًا، ثم أصبحت المشكلة قريبة، فإن الخطر الذي كان يمكن تداركه من البداية أصبح واقعًا يجب التعامل معه مباشرة.
على المستوى البلاغي، تتجلى قوة الشاعر في استخدام الطباق بين “الما بقات” و “الموبقات”، حيث يعكس التناقض بين ما تبقى من القيم وما يقود إلى الفساد، وهو تباين يُبرز الفكرة الرئيسية للقصيدة. كذلك، نجد الجناس الناقص بين “الموبقات” و “الما بقات”، مما يضفي على الأبيات إيقاعًا موسيقيًا يزيدها تأثيرًا. كما أن استخدام الرمز الجغرافي “الراس الأجلح” يعكس بُعدًا مزدوجًا، فهو يشير إلى مكان حقيقي، لكنه في ذات الوقت كناية عن حالة ذهنية أو اجتماعية يصورها الشاعر بذكاء.
ختامًا، تثبت هذه القصيدة أن الشعر الشعبي قادر على حمل رسائل عميقة دون الحاجة إلى التصريح المباشر. فالشاعر عيدان بن صنيق لم يلجأ إلى الخطابة المباشرة، بل استخدم لغة رمزية وأسلوبًا بلاغيًا متينًا ليعبر عن موقفه الرافض لمحاولة الزجّ به في أمر لا يراه صائبًا. وهذا ما يجعل الشعر الشعبي الحقيقي مختلفًا عن النظم العابر، فهو ليس مجرد كلمات تُلقى، بل هو انعكاس لقيم ومبادئ، ورسالة تحمل معاني سامية بلغة يفهمها الجميع، لكنها تظل مفتوحة للتأمل والتأويل، مما يمنحها طابعًا خالدًا في ذاكرة المتلقي.