مقالات

قراءة في مجموعة “على باب مغارة” لـ “البطران”

د. آمال بوحرب (*)

أبواب المغارة المضيئة .. أنسنة السرد المكثف والانزياح الرمزي في مجموعة حسن علي البطران – “مقاربة تفكيكية”

حين يتقاطع الأدب مع الفلسفة، تتجاوز اللغةُ وظيفتها التوصيلية لتصبح معبرًا إلى الممكن، وكشفًا عن اللامرئي في اليومي والمعيش.

وهذا ما يجعل من القصة القصيرة جدًّا، بوصفها شكلًا سرديًّا مكثفًا، حقلًا خصبًا للتأمل الوجودي والرمزي، حيث يتداخل الفنّي بالميتافيزيقي، وتتجاور التجربة الذاتية مع الأسئلة الكونية الكبرى. لقد نبّه أفلاطون إلى أن “الفن مرآة مزدوجة: تعكس العالم وتعيد تشكيله”، بينما اعتبر أرسطو أن “القصّ هو محاكاة للحياة، لا على سبيل التكرار، بل على سبيل التطهير والتأويل”.

في سياق مغاير، تعمّق الفلاسفة المعاصرون في جدلية اللغة والمعنى والكينونة. يرى هايدغر أن “اللغة هي بيت الكينونة”، أي أن الكائن لا يُفصح عن وجوده إلا من خلال اللغة، وتحديدًا من خلال الانزياح عن اللغة اليومية، أي عبر الشعر أو السرد الرمزي، حيث تكشف الكلمات عمّا لا يُقال. ومن هذا المنطلق، فإن القصة القصيرة جدًّا تتحول إلى فضاء أنطولوجي، تكثّف فيه الكينونة في لحظة، وتشتبك الذات مع العالم عبر ومضات دلالية خاطفة، لكنها عميقة.

أما جاك دريدا، فقد فكّك مركزية المعنى المستقر، مؤكدًا أن “النص لا يحمل معنى واحدًا بل يتكوّن من طبقات تأويلية تتوالد إلى ما لا نهاية”، وهو ما يتقاطع مع مفهوم “العمل المفتوح” عند أمبرتو إيكو، الذي يرى أن النصّ الحديث لا يُغلق على نفسه، بل يستدعي قارئًا متورطًا، يعيد إنتاج المعنى ويملأ فراغات النص عبر أفق انتظاره.

هذه الخلفية الفلسفية تفتح لنا أفقًا لقراءة مجموعة “على باب مغارة” للكاتب حسن علي البطران، باعتبارها نصوصًا كثيفة تتناسل فيها الرموز، وتتوالد فيها التأويلات، وتنهار فيها الحدود بين ما هو داخلي وخارجي، بين السردي والفلسفي، وبين الواقعي والأسطوري. فكل قصة فيها ليست مجرد سرد لحكاية، بل تأمل وجودي مشفّر، يُقارب الواقع بلغة الحلم، ويعيد تشكيل المعنى من رماد المعاناة والغياب. ومن هنا، فإن مقاربتنا التفكيكية لهذه المجموعة تنطلق من وعي فلسفي يُراهن على مساءلة البنى العميقة للنص، وكشف أبعاده الرمزية والجمالية والتناصية، باعتبارها مفاتيح لفهم الإنسان في أكثر حالاته هشاشة وغموضًا.

10

إشكالية القراءة والتأويل

تقف مجموعة “على باب مغارة” للكاتب حسن علي البطران أمام القارئ كبنية نصيّة مركّبة تتطلب أدوات تحليلية متشابكة ومقاربات متعددة المستويات، إذ لا تكتفي بكونها مجموعة من النصوص القصصية القصيرة جدًّا، بل تتحول إلى فضاء دلالي مفتوح على تأويلات لا متناهية. فكل نص فيها يُشبه شذرةً سرديةً تختزل العالم بأسره في بضع كلمات، ومع ذلك تحتفظ بعمقٍ فلسفيّ ووجوديّ لافت، يفرض على القارئ الانخراط في تجربة تأويلية مستمرة.

إن هذا النوع من الكتابة يضع القارئ في مواجهة إشكالية مركزية: كيف يمكن قراءة نصٍّ يُكثّف التجربة الإنسانية في ومضة لغوية، دون أن يُضحّي بالمعنى أو يُفرّط في الأثر؟ وهي إشكالية عبّر عنها أدونيس حين قال: “القصيدة العظيمة هي تلك التي لا تنتهي عند آخر كلمة فيها، بل تبدأ هناك”، وهو قول يمكن إسقاطه على القصة القصيرة جدًّا بوصفها “قصيدة سردية” مشحونة بالدلالة. 

يرى كذلك “صلاح فضل “أن “النص القصير لا يُقاس بطوله، بل بقدرته على اختزال العالم”، بينما يشير يوسف إدريس إلى أن “القصة الجيدة ليست تلك التي تحكي كثيرًا، بل تلك التي توحي كثيرًا”.

ومن هذا المنظور، فإن قصص البطران تشتغل على منطق الإيحاء أكثر من التصريح، وعلى الاقتصاد اللغوي المكثّف الذي يفتح أبوابًا كثيرة لمعاني مركّبة ومتداخلة. من هنا، تستدعي هذه المجموعة قراءة تأملية تتجاوز الظاهر النصّي إلى أعمق طبقاته الرمزية والفكرية، قراءةً تراهن على كشف ما هو مسكوت عنه في البنية السردية، وعلى تأويل ما يتخفّى خلف الصمت، والبياض، والاختزال.

عتبات النص: سيميائيات الغلاف والعنوان

تُعدّ العتبات النصية مداخل تأويلية لفهم البنية الرمزية للنص، ولعل أولى هذه العتبات هي الغلاف والعنوان، بما يحتويانه من رموز وألوان تحمل شحنة دلالية عميقة. ففي اللوحة البصرية، يتجلى صراع الأضداد بشكل واضح؛ إذ يهيمن اللون الأسود على الخلفية، وهو لونٌ يرمز في علم النفس التحليلي عند كارل غوستاف يونغ إلى اللاوعي الجمعي، حيث تستقر الرموز البدئية والأساطير المؤسسة للذهنية البشرية. تتخلل هذا السواد بقعٌ زرقاء متدرجة، تُفهم كأفق للأمل المحتمل وسط الظلمة، مما ينسجم مع مفهوم ميخائيل باختين عن “الكرنفالية”، حيث ينبثق الجديد من الفوضى ويولد المعنى من قلب العتمة.

أما اللون البني الذي كُتب به العنوان، فيحيل إلى الأرض والجذور، ما يربط المتن القصصي بأسئلة الهوية والانتماء، باعتبار الأرض رمزًا للثبات والعمق التاريخي. وبالانتقال إلى العنوان ذاته، نجد أن لفظة “المغارة” تحمل أبعادًا رمزية متعددة؛ فهي عند أفلاطون رمزٌ لعالم الظلال والوهم، حيث يعيش البشر أسرى الجهل في الكهف الأسطوري إلى أن يتحرروا عبر المعرفة.

بينما في التصوف، كما عند ابن عربي، تمثل المغارة محطةً من محطات الكشف والمعرفة الباطنية، حيث ينزوي المتصوف لبلوغ الحقيقة. أما عبارة “على الباب” فتُشير إلى لحظة مفصلية من الانتقال بين عالمين، بين الداخل والخارج، بين الجهل والمعرفة، وهي لحظة عبور تُذكّر بنظرية فان جيب حول “مراسيم العبور” التي تمثل الحالة الانتقالية في الطقوس الاجتماعية والثقافية.

عر

البنية السردية: شعرية التكثيف

تتجلى في مجموعة “على باب مغارة” شعرية التكثيف السردي كأحد أبرز ملامح الكتابة القصصية القصيرة جدًّا، وهي شعرية تتأسّس على آليتين بارزتين: الحذف والانزياح اللغوي. أما الحذف، فهو يشمل حذف الروابط النحوية والتفاصيل السردية التقليدية، حيث تعتمد الجمل على الاختزال الحاد، وغالبًا ما تُقدَّم كجُمل قصيرة جدًّا، مشحونة بالدلا لة وهو ما يجعل من “البياض” عنصراً بنيوياً أساسياً في التلقي، يفتح النص على تعدد القراءات.

هذا ما يتقاطع مع رؤية إمبرتو إيكو في مفهوم “العمل المفتوح”، حيث يُستدعى القارئ ليكون شريكًا فعليًا في بناء المعنى، من خلال ملء البياضات واستكمال الفراغات التي يخلّفها النص عمدًا. كما يُولّد هذا النمط السردي ما يُعرف بـ”صدمة التلقّي” كما نظّر لها هانس ياوس، إذ يُفاجَأ المتلقي ببنية متوترة ومقتضبة تجبره على إعادة ترتيب أفق انتظاراته، وتفعيل أدواته التأويلية.

الأبعاد الرمزية: مستويات التأويل

تزخر مجموعة “على باب مغارة” بثقل رمزي كثيف، يتيح قراءات متعددة عبر مستويات تأويلية متداخلة، تبدأ من البعد الوجودي، مرورًا بالاجتماعي، وصولًا إلى النفسي. على المستوى الوجودي، تتجسد الرموز بوصفها إسقاطات على أسئلة الكينونة والعبث والمصير؛ فـقصة “مرآة مشوشة” تقدّم الحذاء كرمز ثقيل الوقع، يتقاطع مع أطروحة سارتر: “الجحيم هو الآخرون”، حيث يتكثف فيها ثقل النظرة الخارجية على الذات وتشويهها.

وفي قصة “منى”، يصبح الغصن المنفصل استعارة عن انفصال الإنسان عن الإله، في استحضار لفكرة نيتشه حول “موت الإله”، وما يترتب عليها من وحدة الوجود وقلق المعنى. أما قصة “نتيجة”، فيرتفع فيها القفص من مجرد أداة مكانية إلى استعارة فوكوية بامتياز، تجسّد تصوّر ميشيل فوكو عن المجتمع كمؤسسة رقابية ضخمة، حيث يتحول الأفراد إلى سجناء ضمن شبكة من الضوابط والمعايير الخفية.

….

(*) باحثة وناقدة عربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com