قراءة في كتاب (الكاهن العظيم) لـ آمال حربي

كتب: هاني الحجي
رحلة فرعونية صيغت بسردية أدبية في الصراع بين العلم والخرافة
..
كتاب (الكاهن العظيم.. وتغيرات المناخ في العصر القديم) صادر عن دار البديع العربي للكاتبة المصرية آمال حربي يوسف الكتاب يمزج بين السرد التاريخي في قوالب قصصية تتناول مرحلة تاريخية مهمة من حياة الفراعنة حاولت الكاتبة من خلال حكاياته إثبات دور الفراعنة في مساعدة بلدان العالم لمواجهة التغير المناخي علميًا الذي حدث فيها.
الكتاب ليس مادة تاريخية جافة، ولا تحاول الكاتبة إثبات رؤيتها بالمجادلات التاريخية، لكن كتبته بسردية تاريخية أدبية على شكل حكايات تشبه تلك القصص التي تلقيناه من الرواة والسير الشعبية التي يغلب عليها جوانب التشويق وإيصال الرسائل الهادفة.
الكتاب يتناول حكاية الكاهن (سوجان آن رع حور) وهو مختص بعلم الطبيعة التي ورثها عن جده يتنبأ من خلال دراسته في علوم الطبيعة أن مصر ستتعرض لتغيير مناخي قد يحول أرضها للتصحر والمجاعة، وتصبح منطقة جرداء غير قابلة للحياة فيها، ولكن ملك مصر يتهم الكاهن بالدجل والسحر ويكذبه ليكتشف القارئ في نهاية الكتاب أن تكذيب الملك له بسبب خلافات شخصية وعائلية معه، وهو ما جعل الملك بنفيه لأطراف مصر وخارجها.
هنا لابد أن تكون لنا وقفة مع التناص في السردية التاريخية وقصة نبي الله يوسف مع ملك مصر التي وردت في القرآن الحكيم
“قَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ.”
فسر نبي الله يوسف عليه السلام رؤية الملك بأنه بعد سبع سنين مما هم فيه من الرخاء والخير ستأتي سبع سنين فيها شدة وجدب، ثم سيأتي الفرج والخير بعد سنين الشدة. فعبرها عليه السلام وأشار لهم بما يفعلونه من التدبير لمواجهة الجدب والشدة، فقال: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) أي: تزرعون سبع سنين متتابعات بجد، لكن ملك مصر في كتاب (الكاهن العظيم) كذب الكاهن الفرعوني وأمر بحبسه في بيته بعكس ما حدث مع ملك مصر ونبي الله يوسف حينما فسر رؤياه أخرجه من السجن وعينه وزيرًا له.
ما إن تمضي السنوات في المنفى حتى يعكف الكاهن على تأليف كتابه عن تغير المناخ ويطوف بكتابه وعلمه بلدان العالم إلا أن حب أرضه وخوفه على أهل مصر جعله يعود لمصر ويقدم كتابه لملكه، وأمر الأخير بوضعه تحت الإقامة الجبرية في داره حتى مات، وبعد وفاته بسنوات أصيبت مصر بالجفاف وصدقت تنبؤات الكاهن مما أعتبر الناس أنه لعنة الكاهن عليهم وعلى الأرض التي دفن فيها.
اجتمع الملك بالمهندسين في مصر لدراسة الظاهرة في جوانبها الطبيعة بعيدًا عن الخرافة التي سرت بين الناس أن ما حصل هو لعنة الكاهن الذي مات ظلمًا وسيعيش القارئ في صراع بين اللغة الشعبية التي عزت سبب القحط إلى لعنة الكاهن، وبين البحث عن أسباب الظاهرة علميًا من خلال اجتماع ملك مصر بالمهندسين وصراع الملك مع نفسه حول اتهامه للكاهن وتأنيب ضميره إن كان ظلمه بنفيه وهو صادق في علمه ويتحدث من دراسة علمية وليس تكهنات سحرة أو منجمين.
تدور الأحداث في الكتاب على هذه الركائز العلمية الثلاثة (الخرافة- العلم- السلطة )
بعد اجتماع الملك بالمهندسين كان صوت الخرافة يعلو على العلم باعتبار ما حدث لعنة بسبب موت الكاهن- وهو رأي أكثرية المهندسين- لكن برز مهندس شاب اسمه (آن راع) ليؤكد أن ما حدث يعود للطبيعة والتغير المناخي وطلب أذنًا من الملك لتشكيل فريق بحث من المهندسين يجوبون العالم لمعرفة البلدان التي واجهت تغيرات مناخية ومعرفة الأساليب العلمية التي استخدموها لمواجهة التغير المناخي وتبدأ تتناسل الحكايا والقصص من خلال الزيارات التي يقوم بها المهندسون لمختلف بلاد العالم بمختلف تضاريسها المناخية وبيئتها الزراعية والبحرية والصناعية في آسيا وأفريقيا وأروبا وتسرد الكاتبة أسماء البلدان بمسمياتها القديمة في الكتب الفرعونية وتشير إلى تفاصيل مناخها ومصادر غذاءها وهي غير معنية بوصف الأمكنة أو الشعوب ولكن تصف الجوانب البيئية في مراحلها التاريخية للبلدان التي زارها المهندسون وتتنقل الكاتبة بخيال القارئ في رحلة تاريخية فرعونية عن تغيرات المناخ في هذه البلدان ولأن هدف الدراسة أصلاً إثبات دور الفراعنة في اكتشاف أسباب تغيرات المناخ ودورهم في نشر التصاميم الهندسية لبناء المعابد
يكتشف المهندسون المصريون عند زيارتهم للبلدان أن ملوكهم واجهوا التغيرات المناخية بالاستعدادات العلمية المبكرة وكان الفضل يعود للكاهن (سوجان) الذي استغل فرصة نفيه وذهب لينشر علمه وتنبؤاته المناخية لبلدان العالم ومن خلال الكتاب الذي ألفه عن تغير المناخ أثناء فرض الإقامة الجبرية عليه من قبل ملك مصر بعد أن تم نفيه وعاد بكتابه ظنا منه أنه سيقنعه وخوفًا على بلده وأهله مما سيتعرضون له من جفاف وعدم صلاحية الأرض للحياة.
كانت المفاجأة أن الكاهن (سوجان) سبق أولئك المهندسين من بلده والتقى بوزراء ومهندسي وملوك تلك البلدان واستطاع أن يقنعهم بتغيير المناخ القادم ويقدم لهم حلولا، والمفارقة أن أكثر ملوك تلك البلدان صدقوه وأخذوا بنصيحته في قصص محبوكة بطريقة تخيلية تمزج بين الواقعية والأسطورة في الكتاب وعندما يعود المهندسون إلى ملك مصر بالهدايا مما تزرعه تلك البلدان ويبهرونه أن مواجهتهم للتغير المناخي يعود للحلول العلمية التي قدمها الكاهن (سوجان) الذي طرده ونفاه يبدأ الملك يعيش صراع السلطة بين كبرياءه وبين تأنيب ضميره أنه لم يستفد من علم هذا الكاهن الذي حذره مما سيحدث في بلاده.
وهنا سيأتي دور العلم في الحكاية ليهزم الخرافة عندما طلب المهندس(راع) الشاب الذي قاد الفريق العلمي في الخارج الذهاب الى الأرض الملعونة التي دفن فيها الكاهن ليكتشف حقيقته ويسخر من خرافاتهم عندما دخل بيت الكاهن وجد كتبًا كثيرة ومن ضمنها الكتاب الذي ألفه الكاهن (سوجان)عن تغير المناخ وبدأ في تطبيق وصاياه في علوم الطبيعة الموجودة في الكتاب عن طرق مواجهة التغير المناخي وبعد أن نجح في زراعة الأرض دعى الملك والشعب وشاهدوا الأرض تحيا بعد بوار بفضل تطبيقه لنظريات الكاهن (سوجان)، وهنا بادر الملك أمام الشعب بالاعتذار للكاهن وأمر ببناء معبد كبير له.
تختم الحكاية بعودة الملك الفرعوني لعدله وانتصر لشعبه من المجاعة وبالعلم هزم الخرافة لتكتشف الحبكة أن المهندس الشاب هو ابن أخت الملك التي تزوجت شخصًا من عامة الشعب وتسببت في قطيعة بينهما.
الكتاب رحلة مناخية تاريخية فرعونية صيغت بسرد تشويقي لم يدخل في الكتابة التاريخية الجافة ولا التفاصيل العلمية المملة، أو يوجه للمختصين بل يستطيع تلقيه كافة شرائح القراء من أبناء البيئة الفرعونية ومن خارجها.
واضح جهد الكاتبة في قراءة ومتابعة المصادر التاريخية وإعادة الكتابة بطريقة أدبية روائية انبثقت في داخل الكتاب من الحكاية الرئيسية عشرات الحكايا والشخصيات والأحداث وتنوعت الأماكن، إلا أن الكاتبة نجحت في الإمساك بالخيط السردي التاريخي لحكايتها السردية التاريخية.
الكتاب سيسيد فراغًا في المكتبة ليس المصرية فقط بل العربية عن تاريخ الفراعنة والكهنة ويعتبر وثيقة سردية ليس للأجيال في مصر لكن لكل من يريد التعرف على الثقافة الفرعونية بطريقة سلسة وسهلة ومشوقة.