في معنى الكتابة

حياة الرايس (*)
لماذا نكتب؟ …… سؤال يتردد عليّ دائما. كسؤال الموت، كسؤال الوجود، كسؤال الحياة، كسؤال المصير، كسؤال الكينونة. نكتب لنكون أو لا نكون بالمعنى الذي ذهب إليه شكسبير.
ونكتب تأصيلًا لكيان بالمعني الذي ذهب إليه محمود المسعدي
ونكتب لان الكتابة كما الفن تؤجل قيامة العالم بالمعنى الذي ذهب اليه نيتشه
شخصيا أكتب كوهم جميل يساعدني على البقاء، ويزيّن لي الخلود.
أكتب لأعيش أكثر وأجمل، لأن حياة واحدة لا تكفي، ولأنه ليس لي أوهام حياة ثانية. أكتب كما أشتهي أن أكون لا كما اشتهتني الحياة أن أكون.
أكتب لأني لا أريد أن تُكتب قصتي بالنيابة عني.
أكتب لأن الحياة ظاهرة سردية كما الموت تماما. ولأني لا أستطيع أن أكتب موتي فلأكتب حياتي.
أكتب لأن حياتي تتجسد أمامي أكثر حين أرويها. وذاكرتي تثبت بالكتابة، وما لا أصوغه في كلمات ولا أدوّنه على الورق سيمحوه الزمن حتما.
أكتب لألامس الحياة بحرف. لأني دخلت في علاقة عشق مع اللغة منذ الصغر. أكتب لأن الكتابة هي اغراء باللغة. والاغراء هو أن ترى نفسك أجمل في عين الآخر وفي عينك أولا
أكتب لأراني أجمل وأعمق، لأفهم نفسي وأفهم الآخرين أكثر
أكتب لأشرح – ولأُشرّح نفسي أمامي أكثر وكذلك أفعل بالأخرين
أكتب لتصفية حسابات بيني وبيني
أكتب لأن روحي ضائعة ولا أدرى اين اروح بها؟ فاسكبها وأريقها على الورق، علّها تزهر أو تفوح يوما. فأراها تينع أمامي وتسري في عروق الأرض وتُنبت الزرع الخصب وتسري في الكون وتسافر مع الرياح وتغني مع العصافير
كذلك أحاول أن أعيش إبداعيا وشعريا على الأرض
من صغري كنت أخشى الاندثار. لم أكن أخشى الموت. لكن أخشى الاندثار، أن يأتي الإنسان إلى هذه الدنيا ويغادر ويكون هباء منثورا. ويمرّ مرور الكرام دون أن يترك أثرا: ذلك ما كان يرعبني فعلا أكثر من الموت.
وأنا لا أدرى من الذي زرع فيّ وهم الخلود منذ الصّغر؟ ومن الذي أثقل حمل الطفلة، بأكثر مما تحتمل؟، من صغري كنت أؤسس للخلود بمشروع أدبي كبير يخلدني أو يبقى كإثر يدل عليّ بعد الخروج من هذه الدنيا، ليقول انّني كنت هنا ولم أكن نكره. يعزّ عليّ أن أغادر نكرة. ولا أترك أثرا.
مثل جدّي جلجامش كنت معنية او مهوسة بالبحث عن عشبة الخلود، ومثله لم يقنعني ما قالت له صاحبة الحانة “سدروي”، مشفقة عليه بعدما أنهكته رحلة البحث عن عشبة الخلود:
“تمتّع بهناءاتك وما يولد لك من أطفال.
الآلهة أعطت الموت للإنسان واحتفظت هي بالخلود.
وهوما نحن عليه ولا محيد لنا عنه”
ولكن هل عمل “جلجامش” بنصيحتها؟ وهل هناك كاتب يستطيع أن يتمتّع بهناءاته وما يولد له من أطفال. دون أن يرمي بنفسه في متاهة مغامرة البحث عن عشبة الخلود؟
وكيف لم أقتنع أنا بما ولد لي من أبناء؟ وكيف استبدلت فعل الولادة بفعل الكتابة؟ كيف استبدلت الرحم بالكلمة؟ من الذي أوهمني أنّ الخلود مع القلم وليس مع الولد؟ ومن أطول عمرا، الكتاب أم الولد؟ ولماذا يموت كلّ أبنائنا ويبقى المتنبّي حيّا لا يموت والمعرّي وابن خلدون؟
مسكت بيدي على الحرف كالماسك على جمرة في زمن تزاحمني فيه بنات جنسي، وتتحدّينني في مواجهة الموت بما يتدّفق من أرحامهن
وكما حمل “جلجامش” عشبة الخلود حملت الحرف ليكون الشاهد الوحيد على الحضور بعد الغياب
…………..
(*) كاتبة تونسية تعيش بين تونس وسويسرا