الصوت الإنساني الأصيل في المجموعة القصصية “رسائل مُتأخرة”

نايف مهدي
تميزت المجموعة القصصية (رسائل مُتأخرة) للكاتبة طاهرة آل سيف بالنبش المجهري في أعماق النفس البشرية، والتنقيب عن أبسط خلجاتها التي يداريها الإنسان بينه وبين نفسه وهو يردم عليها كتلةً من الشعور الزائف والتصنع المفضوح، محاولًا بذلك اختلاق المثالية الهشة من عمق الارتباك، وابتكار أساليب النجاة في عالم يضج بالتناقض والنقيض.
فقد كُتبت هذه المجموعة بِدُربة عالية على تشريح حقيقة العلاقات الإنسانية ومدى صمودها إذا ما دُفعت بالفعل إلى حافة التجربة المُرة بعد تُجرّد من الرتوش المستعارة ومساحيق المجاملة، حيث تعود النرجسية الجافة والموجوعة إلى الأنا الخالصة، التي تحاول، قدر الإمكان، التخفف من غلواء عبء الآخرين، لكي تتفرغ لمواجهة همها الخاص، الذي ينغرز في تيار وعيها كنصل سكين صدئ.
ففي العتبة الأولى حيث برز عنوان العمل (رسائل متأخرة) وهو ما قد يوحي لنا بفوات الأوان لأحداث ومواقف ومصائر فائتة، كان من الممكن لها أن تأخذ منحىً آخر لو وصلت هذه الرسائل في أوانها ووقتها، غير أنها الآن لا رجاء منها، أو أنها قد وُجهت بالفعل لأشخاص واراهم الغياب، أو لعلاقات تحطمت على صخرة الأيام، أو لأحلام طواها اليأس وطمرتها الخيبة، إلى غيرها من الدلالات العميقة التي تحوم حول الندم والفرص الضائعة.
وقد احتلت ستُ عشرة قصة قصيرة القسمَ الأول من صفحات الكتاب، وقد انتهجت التكثيف الصارم على صعيد اللغة والوحدة الموضوعية، فكل كلمة بمقدار ولها دلالتها الموحية التي تتموضع في المعمار القصصي دون نتوء أو قصور، فأتت المسرودات ملتحمة ومشعة كالكريستال في مواجهة النور.
وكذلك قد وظفت الكاتبة الأسلوب العجائبي في بعض قصصها بمقدار رشيد يتناسب مع انفعالات الشخوص الذين يرزحون تحت نير الوحدة والفقد والفجيعة والثكل واليتم، كحديث الأطياف وبوح المرايا وتشكّل الوجوه في المحسوسات الجامدة، الأمر الذي أدى إلى خلق مساحات نفسية ما ورائية متداخلة وجديرة بالاستقراء الطويل والتأمل العميق.
أما فيما يخص الجانب اللغوي، فقد جاءت المسرودات بلغة أدبية مُنتخبة تخدم روح النصوص بفعالية عالية، وقد خلت من الشطط البلاغي والتراكيب اللغوية المُقعرة التي بإمكانها تشويش ذهن القارئ في عملية القص، ما أفضى إلى تساوق اللغة المتينة الغنية بالدلالة مع سيرورة الأحداث دون إفراط أو تفريط.
وقد تناولت القصص العديد من الموضوعات الشائكة والقضايا الاجتماعية المُعقدة مثل: العنف الأسري، وحقوق الطفل المسلوبة، والموت والفقد، والخيانة، والعُزلة والوحدة، والبحث عن شظايا الذات وسط عالم يختنق بالقيود والأنانية.
واللافت في المجموعة أن نصوصها تنشد قارئًا نموذجيًا قادرًا على تفكيك شفرات المسرودات والوصول إلى التأويل والمعاني المضمنة، فقد تُركت بعض الفجوات السردية عن عمد لاستدعاء القارئ، كي يكون مؤولًا فاعلًا ومشاركًا في البنية القصصية.
أما النصف الثاني من الكتاب فقد احتوى على عشرين قصة قصيرة جدًا التزمت بمعايير هذا الفن من حيث التكثيف الشديد والوحدة الموضوعية والإيحاء والرمز ثم المفارقة الصادمة، فعلى سبيل المثال في قصة (غربة، صفحة 70) ففي المشهد الأول، حينما تقف الشابة لتتزين وتتغنج بأنوثتها أمام المرآة وترش العطر الصارخ على جسدها، ثم بعد ذلك يأتي المشهد الثاني صاعقًا ” ينظر إليها زوجها المقعد ويومئ إليها أن تطفئ المصباح” فهنا أتى المشهد الثاني ليقلب ميزان الدلالة رأسًا على عقب ويخلق نقطة التحول والمفارقة ببراعة ودهشة، فقوة هذه الومضة تكمن في نهايتها الصادمة، وإيماءة الزوج “المُقعد” بأن “تُطفئ المصباح” هي ذروة المفارقة.
فالمفارقة الأولى: تظهر بين حركة الشابة المتوهجة بالحياة (“فستان محموم”، “تتغنج”، “عطر صارخ”) وسكون الزوج المُقعد.
والمفارقة الثانية: أن إيماءة إطفاء المصباح لا تعني فقط إنهاء النشاط الظاهر، بل ترمز عميقًا إلى إطفاء الرغبة، والأمل، والحياة، أو حتى إخفاء واقع مؤلم أو محرم، فهي لفتة قوية تُنهي القصة بمفارقة ودلالة عميقة.
كما جاءت قصة (جحود، صفحة 84) مُكلّلةً بلغة شعرية بليغة ومحمّلةً بالإيحاء والرمز “وجدها على أطراف المدينة، شعثاء، مغبرة، نفض ثوبها، سرح شعرها، وفتح صدره مدينة.. استعمرته حتى آخر حجر.. وصار هو أنقاضًا مبعثرة.” فجليٌّ هنا أن القصة قد اعتمدت بشكل كبير على الرمزية “شعثاء، مغبرة” ترمز إلى حالة الفقر والإهمال والضياع “نفض ثوبها، سرح شعرها” ترمز إلى الاحتواء والرعاية وجبر كسر الماضي “فتح صدره مدينة” هذه هي الاستعارة الأقوى في النص، وهي ترمز إلى الاحتواء المعطاء والكرم اللامحدود ومنح الذات ككل في سبيل الطرف الآخر. والمدينة هنا ترمز إلى الروح، والأمان، والكيان، والوجود “استعمرته حتى آخر حجر” استعارة عن الاستغلال الكاسح وامتصاص كل شيء، والسيطرة الكاملة دونما رحمة أو شفقة “صار هو أنقاضًا مُبعثرة” ترمز إلى الانهيار التام، والدمار الكلي وفقدان الهوية بالتحول من كيان كامل إلى شظايا من الركام المتناثر.
وعلى هذا النسق الرصين والمُحكم توالت بقية القصص القصيرة جدًا، وهي تُشرّح في الهم الإنساني ومآزقه بمبضع قاطع، وتجوب بصرامة داخل أغواره النفسية، ما جعل هذه المجموعة ككل صوتًا صارخًا بالهمِّ الإنساني، وشاهدًا على وجعه وآلامه ومصائره المجهولة.