الشِّعر الشعبي بين المِطرَقة والسَّنْدَان
![](https://alatjah.com/wp-content/uploads/2024/12/Untitled-2.jpg)
محمد بن مسعود العُمري
الشِّعر الشعبي في غالبيته يتكئ على الوصف، ويستمدّ شعراؤه كلماته، وألفاظه، وطريقة أدائه، ومعانيه، وأساليبه من الحياة العامّة أو الشعبيّة. فهو يُكتب بكلمات من اللهجة المحلية بين الناس، حيث تنطبق الصفة مع الموصوف، ولا يتم استخدام الفصحى الدقيقة، باستثناء قلة من الشعراء الشعبيين المتمكنين من توظيف المفردة الفصحى داخل القصيدة الشعبية وربط صورها الفنية، سواءً التصريحية أو التلميحية، بالإضافة إلى الموسيقى والجرس؛ بحيث تكون موحية ومؤثرة في الوجدان، وتطرب آذان السامع إذا استوفت جماليات التعبير والخيال والصورة التي تسافر بخيال السامع في فضاءات ضروبها الواسعة.
وكذلك في كثيرًا من الأشعار الفصيحة، يعتمد شعراؤها على الوصف، وتنطبق الصفة مع الموصوف، لكن ما يميزها أن جميع مفرداتها فصيحة وبليغة؛ مما يوجب على النقاد استخراج معانيها بدقة لغوية فائقة، وتسليط كامل أدوات النقد عليها. أما نحن عامة الناس، فنفسّر المعنى الظاهري للقصيدة الشعبية بحسب حسن تخيلها ووقعها على النفس. فقد تلامس معانيها شيئًا في النفس عند أحدهم، أو عند غيره، بما قصد الشاعر تحبيبه أو تكريهه بها.
لعلّ ما يسند تذوقنا للشعر الشعبي، سواء المنظوم منه أو غيره من الأشعار الشعبية الأخرى، قول الأصمعي حين ميّز بين الشعر والنظم بوضوح في كلامه وعرَّف الشعر بقوله: “الشعر ما قلَّ لفظه وسهُل، ودقَّ معناه ولطُف.. وما عدا ذلك فهو كلام منظوم”.
وكذلك إيضاح أبي العلاء المعري حين حدّث تلميذه أبا زكريا التبريزي، فقال: “كنتُ أسأل المعري عن شعرٍ أقرؤه، فيقول لي: هذا نظمٌ جيد. فإذا مرَّ به شعرٌ حقيقي، قال: يا أبا زكريا هذا هو الشِّعر”؛ أي: الشعر الحقيقي.
في هذه المقالة سأدلي بتعليقي على قصيدة للشاعر صالح بن غيثان العمري (أبو عمرين)، التي يقول في بعض أبياتها:
حَنا عـرب ما ولفنا على الكسل والخمول
الميمنة ميمنة والميسرة ميسرة
اقلوبنا مؤمنة بالله وهدي الرسول
وأرواحنا في سبيل الله مستيسرة
أخلاقنا مستمدة من علي والبتول
نعطي المواجيب والمحتاج ما ننهره
تاريخنا في السيوف المرهفة والخيول
والشعر في عروة بن الورد والشنفرة
تحليل الأبيات
أولاً: مفردة “البَتُول”
البَتُول من الألقاب التي أُطلقت على فاطمة الزهراء -رضي الله عنها-لانقطاعها عن نساء زمانها فضلاً وشرفًا ودينًا وحسبًا. فلفظة “تبتَّل” معناها الانقطاع، ومنه قيل: “لمريم ابنة عمران: البَتُول”، لانقطاعها عن الرجال. قال تعالى:﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾[المزمل: 8]، أي: انقطع إلى الله وتفرّغ لعبادته.
في سياق القصيدة، أقول عن الشطر:
“أخلاقنا مستمدة من علي والبتول”
عطف الشاعر “البَتُول” على “عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-”، في إشارة منه إلى ما يتحلى به من صفات حميدة ورفيعة في الأخلاق الحسنة، واشتهاره بالفصاحة والحكمة، فضلاً عن كونه رمزًا للشجاعة والقوة، واتصافه بالعدل والزهد.
أما وصف فاطمة الزهراء -رضي الله عنها-بالبتول، فهو إشارة إلى عدم انشغالها بأمور الدنيا، وتفرغها لعبادة الله، وانشغالها بأمور الآخرة.
ثانيًا: الشطر التالي:
“نعطي المواجيب والمحتاج ما ننهره”
هنا نجد أن هذا الشطر أصبح مرتبطًا بما قبله، حيث يشير إلى معاني الكرم والعطاء. ومن معاني “البَتْل” في اللغة: عطاء بَتْلٌ، أي منقطع النظير أو لا عطاءَ بعده.
من وجهة نظري، نجد هنا فخامة في نسج الشعر، حيث وُظّفت المفردة بشكل جيد وربطت المعاني في سياق الأبيات دون تكرار.
ثالثًا: قوله:
“ترى الأعصاب متوترة من السوشل ميديا
وما كن معنا عقول الناس ملت من الهذران والثرثرة”
هنا ينتقل الشاعر إلى موضوع اجتماعي معاصر، موجّهًا رسالة لمن انتهجوا صفات مكروهة، كالهذران والثرثرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، المرئي منها والمسموع. يشير إلى أن هذه المنصات أصبحت مادة خصبة للثرثرة والتفاهات، وسرعة تناقل الشائعات، والتهافت على أمور دنيوية تافهة.
قال مصطفى صادق الرافعي: “الرأس الفارغ من الحكمة لا يوازنه في صاحبه إلا فمٌ ممتلئ بالثرثرة”.
ختامًا:
إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان. بعيدًا عن الخوض في علم العروض، لعدم معرفتي التامة به، أعتقد أن النقد العروضي لا يسلّط أدواته كاملة على الشعر الشعبي (النبطي والشقر)، وننتظر ما يجود به العروضيّان الدكتور العوفي والأستاذ فرحان المالكي حول أوزان القصيدة وجمالياتها.
وعسى ألا أكون مملًّا بتطويلي.
وإلى اللقاء!