ضجيج الصمت في رواية الكاتب الحميدي

قراءة: وفاء بن صديق
تمثل رواية “صمت” للكاتب السعودي محمد الحميدي الصادرة عن الدار العربية للعلوم تجربة سردية عميقة تبرز فيها ثنائية الصمت والحوار من خلال شخصية إسماعيل، الذي يجد نفسه منذ ولادته محاصرًا في عالم قمعي بهوية ضائعة، فيختار المبدع الصمت كعنصر سردي يفرض حضوره على بنية النص، فيتحول إلى رمز فلسفي يعكس قضايا الوجود، الهوية، والانتماء.
فالصمت في هذا العمل يتجلى في شخص إسماعيل؛ حيث يستكشف ذاته والعالم من حوله من خلال المراقبة للأحداث والأشخاص من حوله، فهو يعيش في حالة من الصمت الاختياري، فيستغني عن الكلمات وفي المقابل يطور قدرته على قراءة ما لا يُقال، سواء أكان في تعابير الوجوه أو في الإيماءات التي يُهملها الآخرون.
على الجانب الآخر، يظهر الحوار بقوة في الرواية من خلال التناقض في المشاهد التي يظهر فيها الآخرون منغمسين في حواراتهم، بينما يظل إسماعيل صامتًا، لكن حاضرًا عبر وعيه العميق لما يحدث.
هذا المد والجزر بين الصمت والكلام يمنح الرواية إيقاعًا سرديًا مميزًا، حيث تتحول اللغة غير المنطوقة إلى وسيلة تعبير أكثر عمقًا من الكلمات نفسها.
كذلك اعتمد الكاتب في سرده على راوٍ عليم يُسرد القصة بضمير الغائب، فينقل أفكار ومشاعر الشخصيات دون الحاجة إلى دائما إلى الحوارات المباشرة. هذه التقنية تكشف عن عالم الشخصية الداخلي بدقة.
كما لجأ الكاتب إلى التكرار للتأكيد على ثيمة الصمت، حيث يتم وصف الأصوات المحيطة – من همهمة البحر إلى ضوضاء المدينة مقابلًا لحالة السكون التي يعيشها إسماعيل، مما يخلق تباينًا دلاليًا يُثري تجربة القراءة.
هذا التباين يُبرز كذلك مدى عزلة إسماعيل في وسط عالم يعجُّ بالأصوات، ليؤكد على مدى عمق الصمت الذي يعيش فيه.
إضافة إلى توظيف الوصف بشكل مكثف في الرواية، ليعوض غياب اللغة اللفظية لدى البطل، حيث تُصبح التفاصيل المرئية والصوتية والحسية وسائل أساسية في نقل حالته النفسية. فحين يكون إسماعيل في بيئة مليئة بالأصوات، يزداد وعي القارئ بثقله الصامت وسط هذا الضجيج، وعندما يكون في مكان هادئ، يتحول الصمت إلى صوت داخلي عميق يمتلئ بالتساؤلات والتأملات. هذا الأسلوب يشكل للقارئ تصورا للعالم كما يراه إسماعيل، دون الحاجة إلى تفسير مباشر.
إلى جانب تقنية الاسترجاع (الفلاش باك) لربط الماضي بالحاضر، حيث تظهر ذكريات إسماعيل عن طفولته التي شكّلت علاقته مع الصمت. فهناك مشاهد تعود إلى لحظات محددة في صباه، مثل المرة الأولى التي أدرك فيها أن صمته يُميزه عن الآخرين، والمواقف التي اختبر فيها عدم فائدة الحديث، مما يعمّق فهم القارئ لحالته النفسية. ففي هذا النص يُصبح الصمت اختيارًا يطرح تساؤلات حول طبيعة التواصل الإنساني، وما إذا كان الصمت أحيانًا أكثر تعبيرًا من الكلام أو بالعكس ومايترتب عليهما من نتائج.
هذا الجانب يظهر بوضوح في عدة مواضع في الرواية، حيث نجد شخصيات أخرى تتحدث بلا توقف، لكن كلماتهم بلا فائدة، في حين أن صمت إسماعيل يكون مليئًا بالمعاني العميقة وإن كانت عواقبه وخيمة.
ومن السمات البارزة في الرواية هي لغتها العميقة التي تجمع بين البساطة والسلاسة والدقة في الوصف إلى جانب الأسلوب الإيحائي الذي يترك مساحات مفتوحة لتأويلات القارئ حتى يشركه في النص فيشعر بأنه جزء منه. فيعمل الفكر لإكمال صورة العمل بنفسه، مما يضمن تفاعل المتلقي مع الرواية.
كما تُسهم لحظات الصمت التي تُركت عمدًا بلا تفسير في خلق مساحات غموض تدفع القارئ للتأمل فيما وراء النص وسبر أغواره باحثا عن إجابات لتساؤلاته.
إن رواية “صمت” قدمت رؤية سردية مبتكرة، حيث يُعاد فيها تشكيل العلاقة بين الصمت والكلام من منظور جديد، يجعل من الغياب اللغوي حضورًا كثيفًا في المشهد السردي. إنها رواية تفرض على القارئ إعادة التفكير في مفاهيم عديدة على رأسها مفهوم الصمت وكأنه يقول للشخصية لماذا لم تجازف بالكلمات مما جعلني أستحضر عبارة (لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟!) لغسان كنفاني في روايته (رجال في الشمس).