آراء و تدوينات

عودة العمود الشعري: تجدد أم انتكاسة للحداثة؟

ريما آل كلزلي

لا شك أن مقال الإعلامية بروين حبيب، المبني على رأي الناقد صبحي الحديدي، قد لامس قضية جوهرية في المشهد الأدبي العربي، وهي عودة الشعر العمودي والتفعيلي إلى الواجهة بقوة، في مقابل التراجع الملحوظ لقصيدة النثر.

وقد أضاءت الكاتبة على عوامل عدة أسهمت في هذا التحول، من بينها قوة المسابقات الشعرية التي أعادت هيبة الشعر العمودي، ووسائل الإعلام التي روّجت له، وصولًا إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي عززت من حضوره لدى فئات واسعة من الجمهور.

وفي المقابل، أشارت إلى ما وصفته بـ”ضعف” قصيدة النثر نتيجة غياب الضوابط والمعايير التي تحكمها، مما جعلها تبدو كأنها فقدت بريقها.

ولكن عودة الشعر العمودي إلى الواجهة لا تعني بالضرورة تراجع الحداثة أو قصيدة النثر، بل قد تكون انعكاسًا لحالة من الحنين إلى الجذور أو تجاوبًا مع متغيرات ثقافية واجتماعية.

لكن السؤال الأهم هنا: هل يمكننا الاكتفاء بالعودة إلى الكلاسيكية كبديل عن الحداثة، أم أننا بحاجة إلى إعادة قراءة الحداثة الشعرية بعيدًا عن تجاربها العشوائية؟

قصيدة النثر (النص الحداثي)، على الرغم من الانتقادات الموجهة إليها، لا تزال تمثل مساحة واسعة للإبداع، فهي ليست مجرد تحرر من الأوزان والقوافي، بل هي محاولة لتوسيع أفق الشعر وإعادة تعريف الجماليات الشعرية بما يتناسب مع متطلبات العصر الحديث. لكن هذا الشكل الشعري يواجه تحديات حقيقية، أبرزها غياب معايير واضحة تساعد في تقييمه والتفريق بين النصوص ذات القيمة الأدبية العالية، وتجارب الكتابة العشوائية التي أضرت بسمعته.

إذا كان العمود الشعري قد استطاع استعادة مكانته بفضل وضوح بنيته ومعاييره، فإن قصيدة النثر بحاجة ماسة إلى بناء معايير نقدية تضمن لها الاستمرار في المشهد الأدبي. ومن باب الوفاء للنص الحداثي بعيدًا عن التجريب العشوائي، يمكن طرح بعض الاقتراحات لدعمه منها:

-الوضوح المفاهيمي إذ يجب البدء بتعريف قصيدة النثر بشكل أكثر دقة، مع تحديد خصائصها الأساسية بما يتجاوز فكرة “التحرر من الوزن والقافية”. فالحداثة ليست تخليًا عن الشكل بقدر ما هي إعادة خلق له.

-التقييم الإبداعي من خلال وضع معايير تعتمد على الإبداع والتجديد في الصور الشعرية، الرمزية، الإيقاع الداخلي، والعمق المعنوي للنصوص.

-تشجيع التجريب المنظم في اللغة والابتعاد عن النمطية في الكتابة، بحيث يكون التجريب وسيلة للإبداع وليس غاية في حد ذاته.

-التفاعل مع الجمهور وقياس تأثير النصوص ومدى ارتباطها بالمتلقي دون التضحية بالقيمة الأدبية، لأن الشعر في نهاية المطاف خطاب إنساني يجب أن يلمس روح القارئ.

-تعزيز الدراسات النقدية فقد باتت الحاجة ماسة إلى دراسات نقدية معمقة ومتوازنة تتناول قصيدة النثر من زوايا الشكل والمضمون، وتسلط الضوء على مواطن قوتها وضعفها.

-إحياء الحوار الأدبي فتح نقاشات جادة بين الشعراء والنقاد حول كيفية تطوير قصيدة النثر بما يحترم طبيعتها ويضمن لها مكانًا مستحقًا في المشهد الأدبي.

….

إن عودة العمود الشعري بقوته لا تعني إلغاء الحداثة الأدبية، بل هي فرصة لإعادة النظر في النصوص الحداثية وتطوير أدواتها. ولقد أثبت الشعر العمودي عبر التاريخ قدرته على الصمود والتجدد، لكن قصيدة النثر تحتاج إلى أن تثبت قدرتها على مواجهة التحديات من خلال بناء هوية واضحة ومعايير نقدية تضمن لها البقاء وسط تنوع الأشكال الشعرية.

في النهاية ….. المشهد الشعري العربي ليس ساحة صراع بين العمود والحداثة، بل هو فضاء رحب يحتمل التنوع ويزدهر بالاختلاف.

الشعر في جوهره بحث عن الجمال والمعنى، سواء أكان موزونًا أم حُرًّا، والشعراء اليوم مطالبون بأن يكونوا أوفياء لهذا الجوهر، من دون الانحياز الأعمى إلى شكل على حساب آخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com