آراء و تدوينات

تحولات المشهد الأدبي: بين النقد والظاهرة

ريما آل كلزلي

تصاعدت ظاهرة الكاتب السعودي أسامة المسلم بشكل لافت في المشهد الأدبي العربي، بوصفه رمزًا لجيل الشباب. يتدافع القراء للحصول على توقيعه في معارض الكتب، وتشتعل وسائل التواصل الاجتماعي بالنقاشات حول أعماله.

في المقابل، يقف النقاد والأكاديميون أمام هذه الظاهرة بمواقف متباينة، بين من يرى أنها مجرد موجة أدبية عابرة تفتقر إلى العمق والمعنى، وبين من يدعو إلى فهمها كجزء من التحولات الثقافية والاجتماعية التي يشهدها جيل الشباب. بعيدًا عن المديح أو النقد الشخصي، هذا التباين يفتح بابًا للنقاش حول أزمة أعمق وهي أزمة النقاد في فهم احتياجات جمهور الأدب الجديد.

والسؤال الأهم: ما الذي يدفع الشباب، خاصة المراهقين، للانجذاب إلى هذا النوع من الأدب؟ وكيف يمكننا التعامل مع الظاهرة بشكل موضوعي؟

استطاع المسلم أن يقدم أعمالًا فانتازية تجمع بين الخيال والأساطير العربية بأسلوب بسيط، فبدت قريبة من اهتمامات فئة تبحث عن محتوى مشوق يواكب إيقاع حياتها السريع. لكن النقاد غالبًا ما ينظرون إلى هذا النوع من الأدب من برجهم العاجي، حيث يقيّمون الأعمال بمعايير أكاديمية تقليدية تركز على العمق الفكري والرمزية، متجاهلين أن الأدب يجب أن يكون وسيلة للتواصل مع الجمهور وتلبية احتياجاته النفسية والاجتماعية.

فهل يجب على الأدب الحقيقي أن يكون نخبويًا فقط؟ أم أن الأدب الذي ينجح في إحداث تأثير حقيقي على حياة جمهوره يستحق التقدير أيضًا؟ لقد أشار عالم الاجتماع بيير بورديو، بمعنى قوله “الثقافة ليست حكرًا على النخبة، بل هي انعكاس لحاجات المجتمع وتغيراته”، وإن نجاح أسامة المسلم يشير إلى حاجة ملحة لإعادة النظر في تعريفنا للأدب، بعيدًا عن المعايير التقليدية التي قد لا تلبي تطلعات الجيل الجديد.

من منظور علم النفس وعلم الاجتماع، يمكن تفسير هذا الانجذاب من خلال تحليل الظروف النفسية والاجتماعية التي يعيشها الشباب في العصر الحديث، خاصة بعد التحولات العميقة، التي شهدها العالم بعد جائحة كورونا.

  1. الهروب من الواقع:

قصص الخيال والأساطير توفر للشباب مساحة للهروب من ضغوط الحياة اليومية. مرحلة المراهقة والشباب المبكر هي فترة مليئة بالتحديات النفسية، مثل القلق بشأن المستقبل والشعور بالضياع. وكما أشار عالم النفس كارل يونغ، “الخيال هو الوسيلة التي نتصالح بها مع الواقع”. الأدب الذي يقدم عوالم خيالية مليئة بالغموض والتشويق يوفر متنفسًا نفسيًا للشباب، خاصة حينما يشعرون أن الواقع يضيق بهم.

  1. البحث عن الهوية والانتماء:

في مرحلة المراهقة، يبحث الشباب عن هويتهم الفردية والجماعية. الأعمال الأدبية التي تقدم شخصيات قوية وعوالم مليئة بالرموز والأساطير تمنحهم شعورًا بالارتباط والانتماء. فالشخصيات الخيالية وأحداث القصة قد تتحول إلى رموز تعبر عن صراعاتهم الداخلية.

  1. التأثير الثقافي والإعلامي:

مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت الظواهر الأدبية تُروج بشكل واسع وسريع. في حين أن كتّاب مثل أسامة المسلم تمكنوا من استثمار هذه المنصات للوصول إلى جمهورهم، وهو ما جعل الشباب يشعرون بأن هذه الأعمال جزء من ثقافتهم اليومية.

  1. الفجوة الثقافية:

في ظل غياب أعمال أدبية معاصرة تخاطب اهتمامات الشباب بشكل مباشر، وجدوا في قصص الخيال والأساطير ضالتهم. هذه القصص تقدم لهم محتوى يجمع بين التشويق والألفة، حيث يستمد المسلم عناصر من التراث الثقافي العربي، لكنه يقدمها بأسلوب عصري يتماشى مع اهتمامات الجيل الجديد.

النقطة المحورية …

هي إن الأدب ليس ثابتًا، بل يتغير مع تغير المجتمعات. ما يراه النقاد “سطحيًا” قد يكون بالنسبة لجيل الشباب تعبيرًا عن واقعهم واحتياجاتهم النفسية. وهنا يبرز دور الكاتب الحقيقي الذي يعكس الثقافة حسب مقولة إدوارد سعيد: “الثقافة الحقيقية هي تلك التي تنجح في التفاعل مع جمهورها، لا تلك التي تضع نفسها في مواجهة معه.”

ظاهرة أم أزمة؟

من المهم أن نعي أن ظاهرة أسامة المسلم ليست مشكلة بحد ذاتها، بل هي انعكاس لتحولات أعمق في المجتمع وطبيعة القراءة لدى الشباب. ومع ذلك، فإن الانجذاب المفرط إلى هذا النوع من الأدب قد يثير قلقًا على عدة مستويات عبر:

-تعزيز الارتباط بالخيال على حساب الواقع حينما يصبح الخيال وسيلة للهروب بدلًا من التصالح مع الواقع، قد يؤدي ذلك إلى انفصال الشباب عن التحديات الحقيقية التي تواجههم. الأدب الخيالي يمكن أن يكون أداة إيجابية إذا ساعد على تطوير التفكير الإبداعي، لكنه قد يصبح ضارًا إذا شجع على الانغماس في عوالم خيالية دون تقديم قيمة فكرية أو واقعية.

-غياب التفكير النقدي: مع الانبهار بقصص الغموض والإثارة، قد يفتقر القارئ إلى القدرة على تحليل النصوص أو التمييز بين الخيال والواقع. وهذا يمكن أن يؤدي إلى تأثيرات سلبية، خاصة إذا كانت بعض الأفكار المتضمنة في النصوص تؤثر على القيم الاجتماعية أو تدفع للاعتقاد بالخرافات.

-الفراغ الثقافي: انتشار هذه الظواهر قد يكون مؤشرًا على غياب أعمال أدبية متنوعة تقدم للشباب بدائل تجمع بين المتعة والعمق الفكري.

للتعامل مع هذه الظاهرة بشكل إيجابي يتوجب:

  1. تعزيز التفكير النقدي من خلال تعليم الشباب كيفية قراءة النصوص بوعي، مع تمييز الفرق بين الخيال والواقع، لفهم الرسائل الأدبية بشكل أعمق.
  2. النقاش المفتوح بدلًا من انتقاد الكاتب أو القارئ، إذ يمكن فتح حوار لفهم ما يجذب الشباب إلى هذه الكتب، وتسليط الضوء على الأفكار التي قد تكون سلبية أو غير واقعية.
  3. تشجيع التنوع في القراءة توجيه القراء لاستكشاف أعمال أدبية متنوعة تحمل قيمًا مختلفة وتفتح آفاقًا جديدة أمامهم.
  4. تقريب النقاد من الجمهور لفهم احتياجاتهم، نيابة عن التمسك بمعايير تقليدية ابتعدت عن الواقع الجديد.

النقاد والشباب: فجوة تحتاج إلى جسر

إحدى القضايا التي أظهرتها ظاهرة أسامة المسلم هي الفجوة بين النقاد الأكاديميين وجمهور الشباب. النقاد غالبًا ما يتعاملون مع الأدب من منطلق المعايير الكلاسيكية التي تعتبر العمق الفكري والرمزية أبرز مقومات العمل الأدبي. في المقابل، يبحث الشباب عن أدب يعبر عن احتياجاتهم النفسية والاجتماعية، حتى لو كان ذلك من خلال قصص خيالية فانتازية.

تتغير الثقافات مع تطور المجتمعات كما أشار عالم الاجتماع بيير بورديو: “الثقافة تتغير مع الاحتياجات الاجتماعية. الأدب الذي لا يتفاعل مع جمهوره يفقد دوره كأداة للتغيير”. هذا لا يعني التنازل عن القيم الأدبية، لكنه يؤكد أهمية فهم التحولات الثقافية التي يمر بها المجتمع، خاصة مع الأجيال الجديدة.

الأدب، في جوهره، ليس مجرد وسيلة للترفيه، بل هو أداة للتأثير الاجتماعي والثقافي. ظاهرة أسامة المسلم تقدم نموذجًا لأدب ينجح في الوصول إلى جمهور واسع، لكنه في الوقت نفسه يثير تساؤلات حول طبيعة هذا التأثير. هل يساعد الشباب على التفكير والنمو؟ أم يدفعهم للابتعاد عن الواقع والارتباط بعوالم خيالية؟

إن مراعاة الحاجات النفسية خاصة للمراهقين يسهم في بناء شخصيات متوازنة وقادرة على التكيف مع مختلف التحديات. لتعزيز فرص النجاح والتطور الإيجابي. كما أشار عالم النفس إبراهام ماسلو: “الحاجات النفسية للإنسان تحدد اختياراته”. إذا نظرنا إلى هذه الظاهرة من هذا المنظور، يمكننا أن نفهم أنها ليست مجرد موجة أدبية، بل تعبير عن احتياجات جيل يواجه تحديات غير مسبوقة في عالم سريع التغير.

في النهاية ظاهرة أسامة المسلم دعوة للتوازن لا يجب أن تكون مدعاة للانقسام بين النقاد والجمهور في حين يمكنها أن تكون فرصة لفهم احتياجات الشباب النفسية والثقافية، وبناء جسور بين الأدب الكلاسيكي والمعاصر. الأدب ليس ثابتًا، بل يتغير ليتماشى مع تحولات المجتمعات. وبينما نحتفي بالتنوع الأدبي، نراعي توجيه الشباب نحو قراءة واعية ومتنوعة، تجمع بين المتعة والفائدة.

الأدب الذي ينجح في إحداث تأثير إيجابي على قارئه، سواء كان ذلك من خلال الخيال أو الواقع، هو أدب يستحق الدراسة والفهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com