آراء و تدوينات

متاهة

القاص: نايف مهدي

بين واقعه وذكرياته بابٌ هش أشبه ما يكون بستارة من الدانتيل الممزق، أو باليقظة الخفيفة التي تسبق الخلود إلى النوم بلحظات.

تتداخل رؤاه بتمهل عشوائي بين هذين العالمين الذائبين، وكأنه وعي حر بلا جسد، بلا يدين، بلا صوت، بلا دفء في مفاصله. الشوارع والأشجار ولوحات الدكاكين كلها تعبره راكضة عن يمينه وشماله، أكان يمشي؟ أكان يطفو كالسيل بهذا الوعي الفضفاض؟ إنه لا يعلم، فقط يشعر أنه مختنق، مختنق بشدة كما لو أن أحدهم يجره من حلقه بحبل غليظ، يدور رأسه في كل الاتجاهات

ويزداد يقينه كل يوم أن القدر قد ابتلاه بأحجية عبثية مستحيلة الحل، ففي كل ليلة يُسقط رأسه بعنف على الوسادة- كما يطرح الجزار خد ذبيحته على أرض المسلخ- وينتظر بخنوع.

هو حائر ولكنه لا يعلم سبب حيرته، وهو أيضًا مكتمل بالنقص ولكنه لا يعلم ما هي نواقصه، يجس كليتيه وكبده وطحاله وحلقه من فوق ثيابه وكأنه يثبت للمجهول أنه محظوظ لأن لديه بعض الأعضاء الصالحة على الأقل، يقهقه في ظلمته فوق السرير حين يدرك أن فعله سخيف، يسقط في النوم، يجد الحلمَ قد جهز له بعض المصائد النفسية المربكة، ويحلم بأسراب الفئران ذاتها التي تدخل في ثيابه وتقتحم فمه وتنهش تجويف أنفه،

وحين يصحو يجد نفسه مغسولًا بالعرق، مصفرَّ الوجه، ويملأه الخوف، يكاد يقسم، من فرط واقعية أحلامه، أنه لو رفع الوسادة الآن لهجمت عليه أسراب الفئران ومزقت جسده. ينهض من سريره مترنحًا، وما إن يأخذ أولى خطواته نحو المغسلة حتى ينزلق في العالم الثاني فجأة وفي جوف أذنيه يحتشد الضجيج الضاغط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com