ذكريات مغترب – 2

يوسف أبو عواد
تتزاحم الذكريات، ولا أدري حقيقة من أين أبدأ، ثمة ذكريات ترتبط بالأماكن، وأخرى بأشخاص، وثالثة بمواقف ومناسبات، بعضها في نجران. نهاية سبعينيات القرن الماضي، وبعضها بالجوف والقريات، للفترة من 1982 — 1998، وختامها مسك بالرياض، من 1998— 2020.
بعض الذكريات تعلمت منها، فكانت لي مدرسة، وبعضها أدخلت لقلبي الفرح والسرور، وبعضها ذكريات عصية على النسيان، عشت حقيقة بالمجمل اجمل الذكريات بالمملكة العربية السعودية، ولم أزل أعيش معها وبها حاضري، كم هو مر وصعب على المرء أن يتذكر أيام السعة والسعادة والرغد والرخاء، في أيام البؤس والشدة والشقاء، لكنها الحياة، متقلبة، كلما أعطت اخذت، ودوام الحال فيها من المحال.
- في فصل محو الأمية بمدرسة بلال بن رباح بالشرفة، في نجران، الجو في الفصل كان شديد الحرارة، وزاد في حرارته أتريك الغاز الذي كان يستخدم للإنارة، آنذاك، وكنت أدرس حرف الباء، وكان من بين الكلمات المستخدمة لتدريس حرف الباء كلمة بردان، كان التركيز في الحصة كتابة وترديدا على كلمة بردان، في الوقت الذي كنا نتصبب فيه عرقاً من شدة الحر، وإذا بالعم صالح بن جلعان يرحمه الله، وكان حينها فراشا بالمدرسة، يحمل كتبه ويخرج من الفصل، ووقت الحصة لم ينتهي بعد، استوقفته؛ سلامات عم صالح، إلى أين؟ الحصة لم تنتهي بعد.
فاجأني العم صالح بإجابته حقيقة حين قال: هذا تدريس خرطي يا أبو عواد، شلون طول هالوقت تحكي لنا بردان بردان واحنا ثيابنا غسلها عرقنا من الحر… ، شعرت أن العم صالح معه حق، كان يجب استبدال بردان بكلمة توحي بالحرارة لا بالبرودة، مثل بركان، لأن كلمة بردان لم يتقبلها واقع الحال، وبالكاد اقنعت العم صالح ليعود لمقعده ونكمل الحصة بكلمة بركان.
رحم الله العم صالح وأسكنه فسيح جناته، كان رجلا خبيرًا في معرفة الأثر أو الجرة، وكان يخبرنا بتحركاتنا من خلال تتبع بصمة أقدامنا على الأرض.
- في العام 1984م، أثناء عملي بمجلة اقرأ، مراسلا لها بمنطقة الجوف، غادرت بسيارتي وكمرتي وجهاز التسجيل مدينة سكاكا وجهتي منفذ الحديثة ( 400كم) لعمل استطلاع صحفي عن هذا المنفذ الذي يمثل البوابة الرئيسية لمواطني المملكة، ودول مجلس التعاون الخليجي في وجهتهم للأردن ومنها لسوريا أو لبنان أو تركيا، وعملت لقاء مع مدير الجوازات وآخر مع مدير الجمارك في المنفذ، وكان من اشتراطات الدكتور عبدالله مناع رئيس تحرير مجلة اقرأ يرحمه الله، أن لابد أن يشار في التحقيق أو الاستطلاع إلى سلبية ما أو جانب تقصير لتكتمل الصورة بشقيها للقارئ، وكسمة من سمات تجسيد المهنية العالية في الأداء الإعلامي، كان مدرسة يرحمه الله، حقيقة كنت في مواجهة حرج شديد، هذا منفذ هل سأنتقد التشديد في تفتيش السيارات القادمة، وهذا فيه حماية للمواطن من تهريب المخدرات وكف أذاها، هل أنتقد الجوازات؟ وبماذا سأنتقد، تجولت بسيارتي في المنفذ، على مسار المغادرين والقادمين، كنت حقيقة أتضور جوعا، فلم أجد بوفية ولا مطعم، كدت أصيح كما صاح أرخميدس في مغطسه، وجدتها، لا يليق بهذا المنفذ الا يكون فيه مطعما، فكانت خاتمة استطلاعي عن منفذ الحديثة، أنني خرجت من هذا المنفذ الرئيسي أتضور جوعا ولم أجد فيه مطعما، فما بال معاناة أطفال العوائل لو شعروا بالجوع ولم يجدوا في المنفذ لو حتى بقالة يبتاعوا منها حبة بسكويت لطفل يبكي!!
المهم بعد ان تم نشر التحقيق، وطالعه مدير الجمارك، هاتفني عاتبا، لقد دعوناك للغداء معنا واعتذرت، وخروجك من المنفذ تتصور جوعا ليست جميلة في حقنا، وتشي بالبخل، قلت له يا أبا فيصل عز الله ما قصرتم، لكني اتكلم بلسان المغادرين والقادمين الذين بحاجة لتوفير هذه الخدمات من مطاعم واستراحات وشقق مفروشة. ولم تمض سنوات معدودات حتى أصبح منفذ الحديثة، منفذ VIP بخدماته ووسائل الراحة والتسوق للمغادرين والقادمين، دام عز المملكة وعلا شأنها بين الأمم.